طي صفحة الحرب والتعويضات بين العراق والكويت، يُفترض أن يفتح صفحة جديدة مفعمة بما يستوجبه “الطي” من معنى.إنها صفحة يمكن أن تطوي كل الجراح على بعضها. ولئن نجت الكويت من جانبها الخاص في المسؤولية عن تلك الحرب، فإن الرهان على فقدان الذاكرة في هذا الأمر لا ينفع.
الغزو كان خطيئة مُرّة. كان عملا انفعاليا لا مبرر له. كما كان يمكن استبداله بوسائل عاقلة لتسوية الخلاف بين البلدين. ولكن الخطيئة كانت هناك، وكانت الكويت طرفا فيها. شيء يشبه تماما ما يحصل الآن بين روسيا وأوكرانيا. فالذين أقنعوا الكويت باستفزاز العراق، ومحاربته بخفض أسعار النفط، ورفض التسوية التي رعتها السعودية، هم أنفسهم الذين أقنعوا أوكرانيا باستفزاز روسيا وتهديدها بالالتحاق بالأطلسي. سوى أنهم هبوا لنجدة الكويت، وإفراغ خزائنها طبعا، وإخراج العراق بالقوة، بينما يتركون أوكرانيا تواجه مصيرها المشؤوم، من دون دعم عسكري مباشر. ربما لأن أوكرانيا لا تمتلك ما كانت تملكه الكويت من أموال. وربما لتحاشي صدام مباشر يمكن أن يتحول إلى صدام نووي، وربما للسببين معا.
ولكنهم لم يهبوا لتحرير الكويت فقط. بل هبوا لذبح العراق وسحقه بذريعة الكويت. ولم يمنعهم شيء من ارتكاب واحدة من أبشع المجازر في تاريخ الحروب ضد الجنود المنسحبين في “طريق الموت” الشهير. كانت تلك المجزرة أول السحق الذي استمر لـ12 عاما من بعد ذلك، قبل أن يُستكمل مشروع السحق بالمزيد في العام 2003 وما بعده إلى يوم الناس هذا.
ما يهم في الأمر، هو أن تلك الحرب أدت من الناحية الفعلية إلى تدمير العراق. وبينما تمكنت الكويت من إعادة إعمار ما خسرته، وحصلت على تعويضات مجزية، فقد بقي العراقيون يدفعون ثمن ما أصبح مشروعا للدمار الشامل، حتى انتهى بغزوه، بعد تدمير اقتصاده وبعد سنوات طويلة من الحصار أدت إلى سقوط عشرات الآلاف ثم عشرات الآلاف من الضحايا، من قبل اندلاع الحرب ومن بعدها.
طي الصفحة، ليس فرصة للنسيان. الأصح، هو أن يكون فرصة للتذكر، ولتعلم الدروس، ومحاسبة النفس عما فعلت، من دون خوف ولا تردد المصير الأسود الذي يعانيه العراق اليوم، يعود في جانب كبير منه، ليس إلى تلك الحرب وحدها، وإنما إلى ما ظل يغلي في النفوس من رغبات الانتقام من العراق. غليان النفوس، بحسب كل الخبرات البشرية، لا يستمر من دون ثمن. إنه أذى يحكم على نفسه بأن يرتد، إن لم يكن اليوم فغدا، ليكون أشد ضررا.لم يطلب أحد من الكويت أن تسدد تعويضات عن جانبها من المسؤولية. ولو طُرحت الفكرة، في أي وقت في المستقبل، فإن التكاليف ربما تجاوزت عشرات أضعاف الـ60 مليار دولار التي أتم العراق دفعها كتعويضات عن جانبه من الخطيئة.
المسألة ليست مسألة مال في النهاية. وفي الواقع، فأن يحصل الأشقاء الكويتيون على مال يعوّضهم عما خسروه، خير من أن يذهب المال إلى جيوب الفاسدين العراقيين الذين نهبوا بلدهم. هم الذين كانوا طَلْعا من شجرة الزقوم التي أنبتها غزو العام 2003.هذا الغزو لم يعرض أحد أن يعوض العراقيين عليه، لأن مرتكبيه أكبر وأقوى من أن تتم ملاحقتهم. ولكن يمكن الركوب على ظهر المساكين.الثأر واحد من أخلاقيات البداوة العربية التي جعلت داحس والغبراء تتقاتلان لنحو قرن من الزمان.
شكرا للزمان الذي أعطى العراق فرصة لأن يستمر الثأر منه 30 سنة فقط، قبل أن يجوز الحديث عن “طي الصفحة”، وعن أمل بالتسامح والمغفرة المتبادلة. ولكن الأمل ما يزال مجرد أمل أو مجرد وهم حتى الآن، حتى ليبدو أن السنوات تمضي لتبلغ ما بلغت البداوة من قبل. أحد الأسباب هو أن العراق ما يزال في الجحيم. ما يزال يدفع الثمن، بسلطة عصابات، تشعر أن لها الحق في أن تغرق بحب الانتقام، لمّا أُتيحت لهم الفرصة الأسطورية للنهب والفساد والحكم والتخريب وشفاء غليل إيران من العراق، دفعة واحدة؟ لقد كان أجدى أن يُحب الكويتَ وطنيون عراقيون! يخلصون في احترامهم لها بمقدار ما يخلصون لوطنهم، لا رجالا فاسدين يشكرون الظروف على ما وفرت لهم من فرص.
العراق تحت سلطة الفساد والتبعية لإيران، غصن مقطوع. ولو أتيح لأهله أي جذع يتكئون إليه، فإنهم سوف يدينون له بدين جليل لاستعادة الحرية والقوة والوقوف على قدمين الفرق هائل. وهو فرق أمني واستراتيجي. والنظر فيه يستوجب بعد نظر! وهذا مما لم تتوفر له مؤشرات حتى الآن.ولو حدث وأن أوجدت الكويت طريقا لدعم إعادة تحرير العراق من الغزو وآثاره وفاسديه، لكان ذلك وجها من أعظم وجوه التعويض.بهذه الطريقة فقط، تنهزم الخطيئة، لتُزرع في أرضها وردة يرقص من حولها الطيبون.طي الصفحة، ليس فرصة للنسيان. الأصح، هو أن يكون فرصة للتذكر، ولتعلم الدروس، ومحاسبة النفس عما فعلت، من دون خوف ولا تردد.
الكثير من العراقيين الذين رحبوا بالغزو، فطنوا إلى الخطيئة تحت وطأة المرارات التي انتهى إليها العراق. ولكن الفطنة الأوجب، هي التي يتعين أن يفطنوها وهم أقوياء وأحرار من القهر والمظالم.الكويت بدورها، يمكن أن تفطن الفطنة نفسها، عندما تتحرر من عبء الماضي وعندما تشعر بالثقة بالنفس، لتقف نخبتها أمام المرآة وتجرؤ على أن تقول ما يستوجب على العراقيين أن يقولوه لأنفسهم: لقد أخطأنا بحق أخ عزيز. ولقد ظلمناه فلم نظلم إلا أنفسنا.
شيء ما، كان يجب أن يمنع الطرفين من السقوط في وحل اللغة القذرة، التي رغبت، قبل الغزو، أن تجعل العراقية بدينار! وبالنسبة إلى من لديه ذرة ضمير، فهذا وحده سبب يكفي للغزو من جديد، دع عنك كل شيء آخر.الخروج من هذا الوحل، ما يزال مطلوبا من العراقيين أيضا.
يحتاج الطرفان، بصدق، أن يطويا الصفحة، على تذكر كل التفاصيل، وعلى النظر إليها بعين الخجل. كما يحتاجان التعامل مع عواقبها من موقع المسؤولية عن رأب الصدوع، في النفوس وفي السياسات.
الكويت التي نُظر إليها، في ذلك الوقت، على أنها “فرع يعود إلى الأصل”، يمكنها بشهامة البداوة نفسها، أن تكون هي الأصل الذي يُعيد الفرع إليه. يضمه، ويداوي جروحه، ويُعيد كِبَرَه المفقود إليه.
العراق تحت سلطة الفساد والتبعية لإيران، غصن مقطوع. ولو أتيح لأهله أي جذع يتكئون إليه، فإنهم سوف يدينون له بدين جليل لاستعادة الحرية والقوة والوقوف على قدمين، واحدة لرفعة النفس، وأخرى لرفعة الأخوة من أينما جاءت.
والكويت، أولى بهذه المسؤولية. بل إنها أولى بأن تشد الرحال إلى عراق جديد، لتنقذه وتقف إلى جوار شعبه، فتقيله من عثرته، وتقيل نفسها به. فلا يكون لمستقبل العلاقة بين البلدين إلا الخير. وكل الخير. وفقط الخير. هذا هو المنطق. ولكن هات من يصغي إليه.