احتفل العراق وبرعاية الأمم المتحدة بإقرار مجلس الوزراء تطبيق الاستراتيجية الوطنية الثانية لتخفيف الفقر للسنوات 2018 – 2022 وبحضور دبلوماسي لممثلي السفارات العربية والأجنبية والمنظمات الدولية.بمعنى آخر إنها الخطة الخمسية الثانية التي تأتي استكمالا للاستراتيجية الأولى لتخفيض نسبة الثلث عند خط الفقر أو تحته، من الذين يشملهم التصنيف العالمي لحدود مداخيل الفرد من سكان العراق، وهو المؤشر الفاصل لاستمرار العيش بتوفر وجبة طعام واحدة كحد أدنى في اليوم؛ دون اشتراط المستلزمات العامة من ضمان المستلزمات الصحية والسكن والملبس والتعليم، أي إننا بصدد ظاهرة المواطن أو الإنسان المشرد وحقه في الإطعام والإيواء في المراكز الاجتماعية.
إذا أردنا تفكيك هذه المقدمة دون تهكم أو سخرية، سنصل إلى ذات النتيجة من الإحباط في بلد ترتبط فيه الوقائع بالفشل العام وسيادة الموت وانتشار مفاهيم الضياع التي انتقلت في العراق من السلوك الشخصي والصعلكة الفكرية في نمط الموجة الفنية والأدبية التي تميزت بها بغداد في قديمها وحديثها، وكانت تقليدا أنتج لنا نماذج إنسانية على غرابتها وتناقضاتها لكنها رغم كل النقد إن رفضا أو قبولا، إلا أنها أضافت نكهة متصلة بتجارب وجودية لمدن كونية فيها الفقر ولعقود عدة كأنه نص إبداعي لرواية من الآمال العظيمة أو قصيدة تائهة في حدائق عامة أو لوحة لفنان يموت جوعا وحبا وهو يتطلع إلى لوحاته في صالة مزاد للتحف الفنية بعد قرن من رحيله تباع بالملايين.
بغداد لوقت قريب، لمن تعايش معها، كانت مدينة إنسانية بكل معنى الكلمة لو جردناها من التشوهات السياسية التي أصابتها بالأمراض المزمنة ووزعت أعراضها الجانبية حتى على العلاقات داخل الأسرة الواحدة؛ لوجدنا فيها مدينة مفرطة بالقلق على مصيرها الاجتماعي وسيرة وخصوصية محلاتها وتواصل أهلها دون حواجز القوميات أو الأديان أو المذاهب.
أن توجد في العراق استراتيجية متبوعة بالوطنية لتخفيف الفقر، معنى ذلك أن الدولة الحاكمة في العراق تعترف، تحت ضغط الحقائق ونسب التراجع في التنمية والاقتصاد وبإرادة النظام المصرفي العالمي وتحديدا البنك الدولي، بحاجتها إلى المساعدة في تأهيل نشاطاتها كدولة نامية بل كدولة في ذيل قائمة الدول الأكثر فسادا وتخلفا وفقرا وتبريرا للأزمات.
وهنا السؤال لماذا لا يعلن العراق حالة الطوارئ كما يحدث في ظروف الكوارث والنكبات الكبرى؟ ولماذا لا تبادر الولايات المتحدة الأميركية والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بوضع العراق تحت لائحة الدول الأكثر تضررا جراء الحرب الأهلية الطائفية والفساد المستشري في مفاصل البنية الأساسية للدولة، وعدم الاكتفاء بذرائع الحرب على الإرهاب وانخفاض أسعار النفط كأسباب رئيسية للفقر؟
الحرب العالمية على الإرهاب دمرت مدن الأنبار والفلوجة وصلاح الدين، ومدينة الموصل، التي نعني بها الموصل القديمة التي تحولت إلى مقبرة جماعية، مازالت فرق الدفاع المدني المحلية بإمكاناتها المحدودة عاجزة عن انتشال الجثث المتبقية، والتخمينات تذهب إلى أرقام تصل إلى 10 آلاف جثة مع انعدام الفرز والتشخيص في عمل الطب الجنائي نظرا لأعداد الضحايا مع توجه بعض أفراد الميليشيات إلى ترك الجثث المتعفنة في الأزقة بحجة إهمال القتلى من تنظيم الدولة الإسلامية.
هذه الحرب المتواصلة بعد الإعلان عن نهايتها، تفسر لنا مأزق العراق في فقر الملايين من سكانه بعد حالة التشرد في المخيمات ومعسكرات النزوح؛ فهم عاطلون عن العمل ويعانون من غياب أبسط مقومات المواطن في الدول الفقيرة الموضوعة على جدول المجاعات والجفاف والكوارث الطبيعية، أي الدول التي تحتاج إلى نجدة أممية لإيصال المساعدات الغذائية والطبية.
أن يطلق رئيس الوزراء حيدر العبادي استراتيجية ثانية، يعني أن العراق أنجز استراتيجية الفترة الأولى، وبقراءة بسيطة نكتشف الإخفاق الهائل لاقتصاد يعتمد على النفط بنسبة 95 بالمئة مع إعدام جماعي لمشاريع القطاع الخاص وتوقف المشاريع الصناعية الكبرى لأسباب تعرضها للتدمير في حرب احتلال العراق أو تحييدها بالعنف والإرهاب المتنوع أو بعدم الدعم أو بالفساد الشائن.
إطلاق مصطلح الاستراتيجية يوحي بالتنمية الشاملة والنهوض بالنظام المصرفي والاقتصادي بما يوازي طروحات التأهيل التي يتبناها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في السياسات التمويلية باعتماد القروض لسد ثغرات ميزان المـدفوعات، والذي يعمل كحلقة توصيل لسياسات النقد إلى أرضية مشتركة من الإصلاحات والمعالجات.
أين هي ملامح الاستراتيجية الأولى لنحتفل بالثانية وتعميم مساعيها لتخفيف الفقر دون الحرب عليه بإصدار القوانين وفتح الآفاق لإلغاء الأنظمة القديمة وجلب الاستثمارات وترصين ثقة الأداء مع الشركات العالمية.
تعدد دوائر التقاعد والرواتب الخاصة والتي أشرنا إليها في مقال سابق ولأغراض التمييز حسب الميول الحزبية والطائفية وكذلك السياسية، لم تعد غائبة عن البنك الدولي ورصده ومتابعته وتحليلاته لأنها من الأشياء المسكوت عنها خاصة ما يتعلق بهدر الملايين من الأموال على مؤسسات كان يمكن دمج أنظمتها وتحويل مستحقاتها إلى مديرية التقاعد العامة وفق قوانين لا يمكن التلاعب بها. هل تابعت الحكومة القضايا المتعلقة بعدد قتلى العمليات الإرهابية لأهداف طمس ملفات التحقيق وإلغاء معالم الفساد أو الاغتيالات؟
300 مليون دولار فقط هي مبلغ القرض المخصص لاستراتيجية تخفيف الفقر من البنك الدولي؛ ألا يبدو هذا الرقم مثيرا للاشمئزاز من نظام سياسي اصطدم بملاحظات مصرفية عالمية أجبرته على إيقاف التعيينات لمدة 3 سنوات في بلد تصل نسبة البطالة فيه إلى 40 بالمئة، مع ما يضاف إليها من بطالة مقنعة كبيرة في دوائر ومديريات وزاراته إثر إلغاء العديد من المؤسسات بعد الاحتلال ومناقلة العاملين فيها.
كيف ينهض العراق وهو يفرق بين شهدائه؟ أين هي حقوق شهداء العراق في حربه مع إيران؟ كيف يتم التعامل مع أسر الشهداء في الرواتب التقاعدية وامتيازاتهم؟ ألم يطالب عدد من النواب وأعضاء فاعلين في العملية السياسية بإلغاء أبسط حقوقهم، وكيف أرادوا تهديم نصب الشهيد بصرحه المعماري الجميل لأنه يذكرهم بمقاومة العراقيين دون استثناء وحجم تضحياتهم للذود عن وطنهم لإيقاف المد الإيراني.
كيف تم احتساب سنوات السجن على عقوبات سرقة المال العام في زمن الحصار لأغراض التقاعد والمخصصات والمكافآت كمناضلين ضد النظام السابق لمئات من المحكومين بقضايا غير سياسية لتمرير أهداف سياسية ورشاوى مالية فاضحة، وهذا يقودنا إلى عدد اللصوص الذين تحولوا إلى مناضلين في أحزاب طائفية وبعضهم في الواجهات السياسية بعد الاحتلال؟
كيف نخفف من الفقر باستراتيجية خمسية وبقرض 300 مليون دولار فقط من البنك الدولي؟ من يريد المصالحة وتعزيز وحدة المجتمع عليه أن يبدأ بالمصالحة بين جميع شهداء العراق أولا، ثم يفكر بالإصلاح وبناء النظام الديمقراطي. أليس من حقنا كشعب أن نرفع الحياة على كفنا في صبح فجر ما، وننتزع العراق من صندوق الموت والجوع والتشرد، أو على الأقل من صندوق جريمة انتخاب عملاء الاحتلالين.