حين نقولُ بأن المسرح هو انعكاس حقيقي لحالة المجتمع، والمرآة الصادقة التي تعكس لنا بصدق تلك الحالة التي نُريد دراستها. وحين يطلبُ من المسرح أن يكون عاملا مؤثراً في المجتمع، فهذا يعني بالضرورة أن تكون أركان المسرح والعرض المسرحي متكاملة من كل الجوانب، ونعني هنا نصاً وإخراجاً وسينوغرافيا وإداء ومعمارية العرض على الخشبة وأزياءً وديكورا، فضلا عن تنسيق الأداء بين الممثلين، حينها يمكننا أن نقول بأن المسرح ممكن له أن يؤدي دوره المطلوب منه.وحين تشرفنا ليلة الخميس 24 تشرين الأول بزيارة عرض “أحوال وأمثال”، وجدنا هذا التكامل المطلوب للعرض المسرحي الناجح. هذا العرض الذي لم يكن امتدادا للمسرحية الناجحة والكبيرة “الخيط والعصفور” فحسب، بل كان امتدادا أصيلاً للمسرح الجاد والذي يمكن أن يعتبر الإنسان فيه هو المحور والمستهدف من العملية المسرحية برمتها، لِذا حين نعود لمقولة الكاتب المسرحي الألماني برتولت برشت “الإنسان هو مؤثرٌ ومتأثر، مغيرٌ ومتغير”. وانطلاقاً من هذهِ المقولة دعونا نعكس ذلك على مسرحية “امثال واحوال”، ومن المهم هنا التقاط هذهِ العوامل التي أثارتها في داخلي ومنها:
اولاً: العودة إلى المسرح التعليمي الهادف الذي يثير قضية مهمة ملقاة على عاتق المسرح منذُ بدايات الحداثة على خشبة المسرح والتي أسس لها إيرون بيسكاتور، وكذلك المجدد والثائر برشت. فنجدُ دقة اختيار المثل والهدف المرجو منه، وهذا كان دليلاً على رسالة كان يريدُ الأستاذ مقداد حمادي صاحب التاريخ الطويل إيصالها.ثانياً: حين نظّرَ الكاتب فريدرك شيلر إلى اخلاقيات المسرح وأيده برشت بالتركيز على تلك الاخلاقيات، وحين قال شيلر بأن المسرح هو “مؤسسة اخلاقية” الهدف منه هو عنصر بث القيم الفاضلة داخل المجتمع حين ننظر إلى الجمهور، كونه مجتمعاً مصغراً. فإن في مسرحية “امثال واحوال” ذلك المبدأ الكبير الذي قد لا يتوفر في الكثير من العروض. ثالثاً: العودة إلى الاقتراب من المسرح العائلي وهذا بحد ذاته من أسمى المبادئ التي يقوم عليها المسرح في ارجاء العالم كافة، وفي هذهِ المسرحية التي مزجت بين المتعة والهدف، حيث المزيج الذي تمكن من إيصال الأهداف بطريقة سلسلة ومقبولة لدى الجمهور.
رابعاً: استخدام الموروث الشعبي وتوظيفه بشكل صحيح لتحقيق هدفٍ أسمى وهو إيصال رسالة إلى الجمهور مفادها الاستفادة من ذلك الموروث، وتلك الحكم التي تمثل خبرات متراكمة للمجتمع، “وقد اشار ، حسين علي هارف” لتلك الجزئية عبر العرض.خامساً: الاقتراب من دور الراوي في المسرح الملحمي، والذي لعب تلك الشخصية ببراعة واتقان حسين علي هارف، كونه مسلحاً بالمعرفة الأكاديمية، والدراية الناضجة للدور، فضلاً عن كونه ممثلاً بارعاً يحمل تقنيات الإخراج وفن كتابة النص، لذا كان ذلك التكامل جلياً بطريقة الصوت، ومخارج الألفاظ، والحركة الرشيقة على المسرح.
سادساً: يجب التوقف عن المهمة الصعبة للأستاذ مقداد حمادي، صاحب التاريخ الجاد والملتزم، حيثُ تشاهدهُ كمن يحفرُ في الصخر وصولاً إلى الهدف. وبدورنا نحيي هذا المتفاني مسرحا، والجادُ التزاماً، والغزيرُ عطاءً.سابعاً: التنسيق الواضح بين الممثلين والذين كانوا في تناغم رائع، قد أجاد المخرج في توزيع الادوار بينهم، كلٌ وقدراته التي تتناسب والدور الملقى على عاتقه، وكان حسين علي هارف محوراً اساسياً في العرض، فضلاً عن غيره. ثامناً: كنتُ اتمنى أن يكون الفصل الثاني أقصر مما هو عليهِ (45) دقيقة، لتجنب التكرار وزيادة الشد العاطفي لدى الجمهور، وكذلك التماهي مع متطلبات الحداثة في العرض المسرحي. وهذا قد يُزيد العرض تشويقاً وإثارة أكثر.
تاسعاً: توظيف العملية المسرحية في إظهار الواقع، عبر انتقاد بعض الظواهر المجتمعية التي تسهم في تهديم المنظومة القيمية داخل المجتمع، ومحاولة إيجاد الحلول لتك الظواهر، وهذا كان جلياً بتناول موضوعة التشتت والابتعاد الأسري من خلال الاستخدام المفرط للهاتف للنقال. عاشراً: هنالك التفاتة قوية ومهمة داخل العرض، وهي أن تكون الوصية مشروطة بتواجد أفراد الأسرة كافة، وبما أن الأسرة قد شابها التشتت، وهذا انعكاسٌ آخر مهم تشير له المسرحية، لذا نجد بأن الوصية قد حققت الهدف من دون أن تتم قراءتها. وهذا بحدِ ذاتهِ من عناصر التغريب في المسرح الملحمي. وهنا يجب الإشارة إلى أن التغريب ممكن أن يكون تغريباً نصياً، أو أدائياً، أو تغريب الفحوى كما فعل برشت في مسرحية “بنادق السيدة كارار” حين انقلبت كارار في موقفها بعد مقتل ابنها خوزيه. أحد عشر: توظيف الديكور ومعمارية خشبة العرض لغرض إثراء العرض وتفعيل عنصر التشويق لدى المتلقي، فنلاحظ أن معمارية الخشبة جاءت منسجمةً مع الأزياء والملابس للممثلين، وكذلك مع اللهجة المستخدمة في الحوار، والتي تضمنت أسلوب اللغة الدارجة، وفي هكذا منظور بيئي توجب اختيار اللهجة بعناية فائقة، حتى يُخلق ذلك التناغم والانسجام بين مكونات العرض المسرحي.