لا يخفى على المتلقي ومتذوق الفن ما يخفيه الفراغ من بعد ميتافيزيقي للمجهول أو المضمر، ويؤمن متصوفة الخط العربي بحالة الانفصال ومن ثم التلاقي في إشارة من الإشارات الصوفية إلى موت الفنان وبقاء أثره وبصمته في فضاء أشبه بالأثير أو الفراغ وهذه حالة فنية سامية يصل إليها متصوفة الخط بعد عناء طويل من فهم أسرار تجريد الحروف وتشريحها وبعدها الفني والروحاني، وهذا ما يجعلنا نتساءل هل للفراغ ثمة وجود مادي لا يشغل ما يمكن أن يشغله؟ وبما يسبب فراغا في هذا الوجود الذي يرغب البعض في تسميته بـ (الحيز) إن لم نقل تصلح لتفسيره لتسمية المكان الخالي وقد يتعدى فهمنا للفراغ بمقاربات قابلة للتساؤل إذ يقترب من مصطلح (مدى) ويقترب مفهوم الفراغ من مصطلح (الغياب) أو هل له ثمة علاقة بما طرحه أحد الفلاسفة بما يسمى (بالحذف والإضمار) وبما يمكن أن يقترب من المسكوت عنه أو عدم المصرح به، وهنا يمكن السؤال هل أن الفراغ يحصل في اللغة ونطق الكلمات؟ أو فجوة في زمن ما أو حيز في مكان ويمكن التساؤل أيضا هل أن وجود الفراغ جاء قصديا أو عشوائيا وينبغي علينا أن نعرف وندرك أن هناك فراغات عدة منتشرة في النص ومسوغات وجودها لا تخلو من المضامين الدرامية والفكرية والجمالية والأسلوبية، ومنذ نشأة الخط العربي كفن له كيانه وخصوصيته اهتم ودأب على ملء اللوحة الخطية بالعنصر المكمل للخط العربي وهو الزخرفة الإسلامية حيث تعتبر اللوحة الخطية منقوصة جماليا إذا لم تكن محاطة بالزخرفة الإسلامية من جميع جهاتها ومع أن الزخرفة الإسلامية هي فن بذاته يهتم بالقيم الجمالية وتجريداتها، وهي فن ولا تقل في أهميتها عن الخط العربي بل يعتبرها البعض أكثر جاذبية وجمالية، إلا أنها لا يمكن أن تضيف بعداً تعبيرياً للوحة الخطية وإنما وجودها يصب في جانب الجمال النقي الخالص من دون تأويل، إذ يتلافى معظم فناني الخط العربي وجود الفراغ في فضاء اللوحة والحقيقة أن الفراغ من العناصر التصميمية المهمة في بنية وتكوين اللوحة كما هو من العناصر التعبيرية التي تعطي أبعاداً إضافية لمفهوم العمل الفني، ونجد اللوحات الخطية الكلاسيكية وفي مقدمتها «الحليات النبوية « تكاد تكون محشوة بالزخرف الذي يضيف أبعاداً جمالية وقد يكون فيها شيء من التجريد، كونها تشير إلى زخارف نباتية وحيوانية وهندسية، لكنها لا تستطيع التعبير عن مضمون النص المراد كتابته لذلك نلاحظ اللوحات الخطية تكاد تخلو من توظيف الفراغ كقيمة معرفية ضمن دائرة البعد التعبيري، غير أن الفراغ متأصل في الفلسفة الإسلامية والطرق الصوفية وترميزه ودلالاته في التعبير عن اللامتناهي والمنفتح إلى المطلق في حين نجد توظيف الفراغ في الفنون التشكيلية الأخرى أكثر وجوداً مع حالات مختلفة من الرمزية والسيميائية ومع أن الفراغ هو حالة من المكنون الصوفي لدى الإنسان لذلك كان على الخط العربي وهو فن التصوف والتجريد أن يستثمر الفراغ بصورة أكبر وأكثر حرفية لأن الفراغ يمثل ثيمة جمالية وتعبيرية كبيرة يمكن منحها جماليات مختلفة ومستويات مختلفة من حيث المبنى والمضمون ومن خلال التكوين والفضاء ولا أعرف كيف تغافل كبار فناني الحروفية عن توظيف الفراغ بشكل واضح وجلي في لوحاتهم بدل حشر الحروف بأشكال تكاد تكون لا تمت للخط العربي بصلة في حين كان من الممكن استخدام الفراغ استخداماً رمزياً ذا مضمون.وهذا لا يقلل من شأن الخط العربي وتراثه بل على العكس انه يضيف إلى فن الخط أبعاداً يفتقر لها المجال الفلسفي في الخط العربي، اذ يخلق الفراغ حالات من العشق اللامتناهي مع الأشياء من حوله ومع تفاصيل الكائنات وهذا بدوره يمنح الخط العربي جمالا ورونقا إضافيين يجعلانه أكثر طواعية وأكثر تناغماً مع الفنون الأخرى ومع الطبيعة بصورة عامة.