عبر الستين سنة الماضية مر العراق بحروب متعددة الأشكال ومختلفة الجبهات. حروب داخلية، من خلالها كانت الأحزاب يذبح بعضها البعض الآخر وحروب خارجية وصل بعضها إلى درجة العالمية حيث شاركت فيها دول لم يسمع جنودها باسم العراق قبل أن تطأ بساطيلهم أرضه ويسمم دخان مدافعهم هواءه.من حروب الإخوة الأعداء إلى حروب الأعداء الغرباء كان الشعب العراقي قد تم وضعه على طاولة تشريح، كانت أحيانا فخمة ذات صيت مدو وأحيانا أخرى رثة لم يسمع بها أحد. وفي الحالين لم تخطئ مباضع الجراحين طريقها إلى الجوهر، بوصلة الوجود والمصير. لم يسر التاريخ في طريقه بانسياب وليونة. لقد تسللت إليه حجارة غريبة عنه وانحرفت به وظل على انحرافه فلم يعد تاريخ شعب يرغب في أن يعيش حياته كما الشعوب الأخرى في سلم وأمان ورفاهية وهو الذي وهبته الطبيعة خيرات تؤهله أن يكون واحدا من أكثر شعوب العالم ترفا بل كان ذلك التاريخ سجلا للخسارات والفقدان والمآسي.
فعلها العراقيون بأنفسهم قبل أن يفعلها الآخرون بهم. إلا إذا خضعنا لنظرية المؤامرة التي لا يمكن أن يكون العراقيون أبرياء من المشاركة فيها. وهو ما يعني أنهم كانوا قد تآمروا على أنفسهم من أجل أن تستمر حفلة التنكيل بالذات ومعاقبتها وهي الحفلة الوحيدة التي تحضرها الأطياف العراقية كلها. حلبة للانتقام لم يتأخر أحد من الوقوف عليها.من المقاومة الشعبية إلى عصائب أهل الحق مرورا بالحرس القومي يمتد حبل الغسيل العراقي القذر ليُطوق التاريخ بحروب داخلية ومن حرب الثماني سنوات مع إيران في ثمانينات القرن الماضي إلى الغزو الأميركي عام 2003 مرورا بحرب تحرير الكويت عام 1991، لتُكتب صفحات سوداء يفقد العراق فيها أكثر من مليونين من شبابه ويعود إلى عصر ما قبل الدولة.
“ما مر عام والعراق ليس فيه جوع”. لم يضع شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب يده على نبوءة ولم يقل جملته تكهنا. كانت تلك هي الحقيقة التي رآها والتي شعر أن طريقة تعامل العراقيين مع الواقع لن تغير فيها شيئا. سيظل الجوع مقيما هناك سواء كان العراق فقيرا أم ثريا. لا يملك العراقيون وقتا ليتفادوا الجوع ما دامت طبول الحرب تُقرع من حولهم وما داموا مسكونين بالحرب باعتبارها أول الحلول وأكثرها يسرا. بالنفط ومن غيره سيظل العراق على حاله. إن لم يتعرض للغزو فإن حروبه الأهلية، المعلنة والخفية ستأكل الجزء الأكبر من ثروته. والعراق لا يحتاج إلى النفط لكي يكون ثريا، ولكن حظه العاثر فرض عليه أن يكون دولة ريعية فيما صارت الدول النفطية الأخرى تُنشئ اقتصادا مجاورا لاقتصاد النفط لكي تتحرر منه يوم يتخلى العالم عنه.
كل حروب العراق كان يمكن تفاديها لو أن الشعب كان قد امتلك إرادة وطنية مستقلة لا تتحكم بها عقدة الانتقام ولو أن الشخصية العراقية تخلت عن قسوتها على الآخر المختلف والتي تحولت في ما بعد إلى قسوة على الذات التي فقدت الكثير من سيطرتها على أفكارها وأفعالها. ولو لم يكن العراقيون قد استضعفوا أنفسهم بتلك الطريقة الرخيصة لما تمكنت الأحزاب من استعمالهم بيادق شطرنج. في الجزء الأكبر من التاريخ الجمهوري (من عام 1958) لعب العراقيون دورا خطيرا في عملية تدمير نسيجهم الاجتماعي واستباحوا الكثير من المناطق التي ما كان عليهم أن يقتربوا منها ذلك لأنها تشكل الجوهر الذي يشكل غيابه نهاية لهم.
في ظل كل تلك المعطيات يمكن القول إن حرب الدولار التي تُشن اليوم عليهم ما كان من الممكن أن تقع لولا أنهم قبلوا بانهيار أملهم في قيام دولة وطنية بعد أن ألغى مقتدى الصدر نتائج الانتخابات وسلم السلطة إلى الفاسدين من أتباع إيران. فانهيار سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي مرتبط أصلا بعملية انتقام ينفذها نوري المالكي بعد أن فرضت الولايات المتحدة قيودا على تهريب العملة الصعبة من العراق إلى إيران. كان هناك وفد أميركي قد زار العراق مؤخرا ووضع تعليماته على الطاولة فما كان على الحكومة العراقية سوى أن تلجأ إلى الضغط عن طريق تجويع الشعب العراقي. وهو ما يعني أن هناك خيارين لا ثالث لهما. إما أن يتم تجويع الشعب العراقي عن طريق انهيار العملة الوطنية أو يُفك الحصار المفروض على تهريب العملة الصعبة إلى إيران عن طريق التحويلات العراقية. حرب جديدة على العراقيين، كانوا قد ساهموا في التمهيد لها عن طريق قبولهم بعودة الفاسدين إلى الحكم.