استعير عنوان هذه المقالة القصيرة، من فكرة ألعاب اللغة، وهي فكرة فلسفية اشتغل عليها لودفيغ فيتغنشتاين، واشتغل على فكرة اللعبة النظرية ونظرية الألعاب، زولتان فارجا، وبدا الفكرة كما يشخص فارجا، “ أن تاريخ الإنسانية في القرن العشرين يدل على أن لفكرة (اللعبة) اهمية كبرى في فهم ثقافتنا ،”. واعتبرت اللعبة موضوعا للمعرفة وموضوعا للخطاب، والقول لفارجا، “ إننا كي نتعلم اللعب علينا أن نفهم أننا أمام طريق مزدوج” ولذلك ليس من مناص بالنسبة لأي تفكير حداثوي من أن يسلك لفهم أن “الأدب لعبة، كبيرة رائعة”، لعل مفهوم توليد المعاني المختلفة من خلال اللعب بالألفاظ والبحث عن موسيقى الكلمات وفرض مجموعة من التحديات من نوع “لزوم ما لايلزم” ومحاولة تحقيقها، هي التي دفت جماعة من المثقفين الفرنسيين لتشكيل مختبر للأدب المحتمل، وتعني المحتمل الطاقة التي تحملها الكلمات من اشتقاقات قاموسية يمكن ان تستعيرها الثقافة لتوسيع دائرة المعنى القاعدي للكلمة. فالبيضة دائرية ، ولكنها دائرية بتشكيل معين، استعارتها الفنون النحتية كثيرا، ولعبت على الشكل الدائري، بحيث انتحت من القاعدة الدائرية تفسيرين: أحدهما يذهب إلى الاشكال الفنية واللغوية، والثاني يذهب إلى الطبيعة والميتافيزيقية واختلاق الأشكال اللامرئية، لذلك نجد مفردة خزانة مثلًا، وهي ببنية الدائرة حتى لو كانت مستطيلة او مربعة، يتسع مدلولها ليشمل أشكال المخازن كلها، وتفرض كلمة “الخزن” شكلا مفاهيميًا على الشكل، بما فيها صناديق واحراز العجائز، كما يتسع ميدان المخزن اللغوي ليشمل قطاعات صناعية واجتماعية وتكوينات لا حدود لمدياتها، ثم تأتي المرحلة الثانية للتسميات التي نجد اقدر الطبخ يختلف تسمة عن السفية، والموقد يختلف تسمية عن الوجار، والجمجمة تختلف تسمية عن الإناء، وهكذا يمكنك ان تلعب في اسماء الأشكال الدائرية بينما تبقى قاعدة الدائرة واحدة في كل الأشكال.في الأدب نحتاج إلى معرفة مضاعفة، بين أن تفهم الشكل في الطبيعة، والشكل في النص الأدبي، هناك يكون ماديًا، وهنا في النص يكون لغةً، اللعب الفني بين الاأنين هو أن تقرب المفاهيم من بعضها لتنتج العابا استعارية وكنائية لا حدود لها، عندما تجد أن الاشكال في الطبيعة يمكن نحتها لغويا، وأن الاشكال في الأدب يمكن تأويلها. ولذلك يقال “الأدب لعبة كبيرة” كما يقول فارجا، وأن الواقع لعبة جامدة بحاجة إلى من يغيّرها، ويكشف اللامرئي فيها.
نأتي إلى عنوان موضوعنا:الفكرة اللعبة” وهو عنوان مستل من الفلسفة، حيث الأفكار تكون نتيجة ثانية بعد التفكير، وأن هذه النتيجة ما أن تستقر على قناعة، من أن لديك فكرة ما، حتى يبدأ اللعب الفكري فيها وحولها وما يشبهها، وما يختلف معها. وأول مدارج المعرفة أن تعين مكانها، أين تقع هذه الفكرة من متشابهاتها، هل هي جديدة، أم متحولة، أم قديمة يجري تحديثها، لابد من موضعة لها بين الأفكار، كي تتعرف أين هي وما الجديد فيها، وما تحمله من القديم الذي سبقها، أوالتي تتجاور معها في الآنية. هذه الموضعة بداية التجربة العملية للتحقق من جدوى الفكرة..
المرحلة الثانية، علينا،أن نبحث عن المجالات التي يمكن للفكرة أن تشتغل فيها، كل فكرة انحسرت مجالاتها العملية، لن يكتب لها النجاح، إلا إذا كانت الفكرة نقدية، أو فلسفية، فمجالات عملها ستكون شاملة، يمكن تطبيقها على النصوص الأدبية، ويمكن تطبيقها على الحالات الإجتماعية والسياسية والثقافية، وعلى مدار أزمنة وأمكنة مختلفة، يمكن تتبع التغييرات التي تحدث فيها. فإذا تحقق شيء من شمولية التطبيق، يمكن أن تكون العاب الفكرة المعرفية أكثر حضورا في العلوم المختلفة، وهذا هو أهم ميادين الفلسفة عندما يجد الفيلسوف أن فكرة الاخلاق والتطور والوجود مثلا قد تعالج ميادين إنسانية مختلفة.
المرحلة الثالثة من ألعاب الفكرة، هي الاجراءات التطبيقية لها، وهذه نقطة مهمة توصل الأفكار إلى التحقق العلمي، وغالبا من تنحدر الأفكار من التجريد الفلسفي والرياضي إلى التحقق العملي، ولنا امثلة كثيرة عندما كانت الأفكار مجرد العاب لغوية، وتصورات واحتمالات، أصبحت بفعل تطور العلوم والذكاء متحققات عملية وعلمية دخلت في نسيج حياتنا اليومية.المرحلة الرابعة وهي الأهم في تصوري، والتي تغيب كثيرًا عمّا يلحق أو ينتج من مرحلة التحقق العملي للأفكار، أن تتحول الفكرة إلى لاعب مغير في الأفكار الأخرى، أي أن تصبح عاملا مساعدا للتغيير، وهذا ما يجعل أية فكرة متحققة أن تتحول من التجريد والعمل إلى ميادين اشتغالها كاداة تغيير. وتسعى العلوم الإجتماعية والطبية والهندسية إلى تحقيق هذه الألعاب التي يدخل الخيال في بنيتها . يقال عن المهندسة زهاء حديد أنها كانت تحقق أفكارها على الورق، لاستحالة تطويع آليات التمكن من الرؤية الخيالية لتصوراتها عن مطاوعة الأسمنت والحديد وآليات اشتغال البناء لافكارها، كانت زهاء تلعب بافكارها في منطقة الخيال العلمي غير المتحقق، مما أجبرت الألية المعمارية بأدواتها أن تغيّر من مداراتها العملية لاستيعاب أفكار زهاء الهندسية، وهو ما جعل الأشكال الداخلية تفرض البنى الخارجية لعمارتها، تبعا للطاقة التخييلية التي أدخلتها على الأفكار المعمارية دون أن تتبنى مدرسة هندسية جديدة بالكامل.
ما يجعل التخييل، لعبة إنسانية متحققة، هو قدرة العلوم الحديثة على استيعاب تصوراتها وألعابها الشكلية وقدرتها على استيعاب التصورات المنفتحة على زيادة اللعب في خيال المادة وشعريتها. ويبدو أن مثل هذا التصور خيالي بحث، لكننا نجد في مطواعية الأشكال للالات العملية، قدرة على حرية الشكل، وهو ما جعل الخطوط التي ترسم على الورقة الاسكيج في الرسوم الفنية طاقة على اقتناص الخيال الشعري للمادة عندما تجد تحققها الفعلي في التطبيق. لايختلف الأدب، خاصة الشعر والرواية عن العمارة، والعاب الخيال فيها، ما يجعل مبدأ تشييد النص بالكلمات؛ هو الطاقة التي تملكها الكلمات على استيعاب الأفكار، الكلمة كالحجر وقضبان الحديد والاِسمنت الصلب، والأعمدة، والفراغات، والمجالات الفارغة، بامكانها ان تكون كلمات.عندما نفكر في الرواية يقول مارسيل بروست أفكر بالكاتدرائية القوطية.