شكل الفن الفلسطينيّ منذ أيام النكبة حتى اليوم قضّية مهمة لمن يتابعه عن كثب، فلطالما قدم أعمالا تليق بمأساة أهله من خلال الرسم وباقي الفنون الإنسانية وأخذت خريطة فلسطين حيزا مكانيا من ذلك الجمال الفنيّ بالإضافة إلى روحيّة وتوظيف القضية سياسيا وإنسانيا.. وإذا كان الدور الأول لفنانين مثل إسماعيل شموط وسليمان منصور وعبد عابدي، وكامل المغنّي وعبد الرحمن المزيّن فقد رأينا اليوم بعد العمليات الجهادية الاخيرة لحماس فنانين جسدوا قضيتهم وحبهم عبر لوحات فنيّة تليق بالحدث فكيف يمكن لنا كمتذوقين أن نفهم هذا الشعور في تقديم رسومات تفرز لنا نتائج مذهلة في تمثيل وقائع وأجواء تبدو غاية في الإجرام وقوة التهجير وتجاهل حرية إقامة الفلسطيني في بلده وكيف باتت عشرات العوائل بلا سقف يقيهم برد شتائهم القادم؟ .
الفن التعبيري وهواجس الانتماء للهوية
ذهب إسماعيل شموط كفنان ملتزم بموضوعة التهجير إلى أبداء أكثر من عمل تعبيري وواقعي يليق باسمه فقد وجد من الهجرة القسريّة موضوعا حساسا يخوض في غماره بحثا جوهريا وباتت أعماله كلوازم أسلوبية تورق في المعنى الذي يذهب إليه كقضية إنسانية تحمل سمات سياسية وبدت لوحته (إلى أين) علامة فارقة في الفن الفلسطيني لأنها أقرب إلى الإحساس والانجاز الفني التعبيريّ، ولا غرابة أن نرى الغالب من منجزه الفني تصرح بإدانتها ضد المحتل لتضع أهل فلسطين ومحبيهم في واجهة قراءة التاريخ الإنساني بعد النكبة الأولى وما تلاها وساعدته رؤيته وثقافته البصريَّة أن يعثر على أسلوب يمنح خطاب قضيته دعامة صورية تكشف عن قناعة بأن الفن انعكاس واحالة صادقة لموضوع التهجير والقتل الجماعي. وفي الجهة الأخرى من الالتزام الفني نجد الفنانة تمام الاكحل زوجة إسماعيل شموط قد أسست لفن يوظف التراث الفلسطينيّ في متن من الإبداع الحقيقي فعندها التراث حاضر في كل عمل وهو هدف تتغنى بتحقيقه جماليا سواء جاء عبر لوحاتها المائية المميزة أو عبر الاكرليك والكانفاس وفي سياق التراث لم تخل لوحاتها من صدى التهجير القسري بل ظهرت بشكل واضح وصريح وبقيت لوحاتها تفي بالتعبيرية التي تعد واجهة حقيقيَّة وملتزمة بقضية الفرد الفلسطينيّ كل ما عرف عنها انها فنانة تمتلك رؤية ومنهجا يعزز من موضوعة الحرب والتهجير والدمار الذي لحق بأهلها منذ نكبة 48 لتكون محاولاتها تكريسا وامتدادا لأجيال سابقة ولاحقة أخذت منهم قضية فلسطين حيزا وجدانيا وتعبيريا ووجوديا. أيضا سنجد في تاريخ الحركة الفنيّة الفلسطينيَّة من هو غارق في تأسيس مظاهر فن له انتباهاته وتماهييه مع الواقع فهذا كامل المغني قد اغنى قضية الهجرة عبر توظيفه إلى أشد اللحظات الحرجة للفلسطينيين، ومثل وفق سمات اسلوبية متنوعة وفي اكثر من مدرسة فنية ما يليق برؤيته ونزعته الوطنية وباتت قضية الحرية هاجسا ينادي به ولازمه الشعور في لوحاته لتصبح فيما بعد جزءا من حدوده الفنية التعبيريَّة ،لقد أشاع في طريقته عبر الرسم روح الالتزام الفني وتجديد خطاب اللوحة مع إعطاء قضية التهجير بعدا رمزيا وتصورا يمتلك من الايحاء وتعدد القراءة ما يجعلنا ننظر إلى منجزه بعين الدهشة فهناك تطور في الاسلوب وجذب حي لتاريخ الحوادث فنيا وهذه لعبة الفن الملتزم بقضايا الإنسان ولولا صدق الطاقة التعبيرية ما كان لنا أن نتذكر كل اولئك الفنانين الذين جابهوا الموت بالفن.
ما الذي نفهمه من كل ذلك ؟
يولد الفنان الفلسطيني وأمام عينيه صورة المأساة ومحاولات المجابهة ويعيش وهو مليء بصورة الوقار والمهابة لأنه لم يستسلم لرحلة القدر ولم يهادن، ولم يخف حقائق الدمار التي أخفتها العديد من أدبيات المنجز الاسرائيلي كل شيء يتشكل بما يفعله ويمليه ضمير الفنان الفلسطيني سنرى عشرات الأعمال منذ ستينيات القرن المنصرم إلى يومنا هذا ما يتجسد فنا ويلهبنا الحماس لمعرفة كيف فكر الفنان في نقل مواجهته معرفيا وأخلاقيا عبر لوحات تعلق اليوم في الرفوف العليا.