عدنان أبو زيد
لم تعد القراءة طقوساً خاصة، بل عادة يومية يمارسها البشر في القطارات والسيارات، ومحطات انتظار الباصات، بعدما امتلك أفراد في المجتمع المتقدّم قدرة تداول النص الرقمي عبر الفضاء بوسائل النقل المعلوماتي، تجعلهم على اطلاع آني بالتطورات السياسية والأحداث الثقافية.
وعلى هذا الأساس، تكتب القصة في ظروف جديدة غير معتادة في صالة انتظار وسيلة النقل مثلاً، وتُدوّن القصيدة وترسل الى مئات الأشخاص في الأماكن العامة، فيما يتلقّى في الوقت ذاته، كاتبها ردود الأفعال، في ذات اللحظة.
وعلى هذا المنوال باتت « القراءة الاجتماعية»، بسبب تقنيات الإيصال المعرفي والتواصل المعلوماتي، ممارسة يشترك فيها الجميع بعدما عُرف عنها لقرون خلت انها مرتبطة بالعزلة، والانكفاء على الذات، وارتبط الكتاب باللحظات الرومانسية بطقوسها الخاصة، من هدوء مطبق، وعدم تواصل مع الآخرين في خلال ممارسة القراءة.
لقد تبدل الأمر إلى الأبد، وأصبح الإنسان العصري، قارئاً وكاتباً وناقداً في الوقت ذاته، وانبرى يضيف وينقّح ويجادل على صفحات الكتب الالكترونية، ويبرز ذلك بشكل جلي في ما وفرّته شركة سوبوكس (Sobooks) الألمانية في معرض فرانكفورت للكتاب منذ 2013 من منصة حملت اسم الشركة، ولا تستعرض لك الكتب الالكترونية فحسب، بل والكتابة على صفحاتها أيضا، ليصل تعليقك إلى كل الذين يقرؤون الكتاب في ذات اللحظة.
انها عملية مذهلة، تعدّ انقلابا حقيقيا في مفهوم تداول الثقافة، وتسويق الكتاب ونشره.
غير أنّ الأمر لا يتعلّق في كونه إنجازاً إبداعياً يغيّر من السلوك القرائي للإنسان، بقدر جعله الثقافة من أقوى محركات الاقتصاد في العالم، بسبب الطفرة التي سيحدثها الكتاب الرقمي التفاعلي في زيادة حجم المبيعات الثقافية في العالم.
وبهذا باتت الثقافة، عملية إنتاجية تدر الأرباح شأنها شأن أي مصنع أو معمل، يضخ السلع إلى الأسواق.
ومن هنا أيضا، نفهم ذلك الترابط المحكم في المجتمعات المتقدمة، بين الثقافة والاقتصاد والعلم، فلم يكن الغرض في القراءة التفاعلية،
الاطلاع فحسب، على رغم انه الهدف الأول، بل تتناسق معه أهداف الربحية وتحسين الاقتصاد، مايجعل العملية القرائية، في تطور مستمر لأنها تدرّ الأرباح على مطوري التقنيات، وتدفع الشركات الكبرى إلى المزيد من البحث والاختراع.
لقد تحوّلت القراءة الى سلعة منتجة، حالها حال أي نشاط اقتصادي آخر، وباتت مهمة التسويق، إشعال حماس القارئ.
ان تمعّن حركة الناس في هولندا وألمانيا ودول أخرى، وهم يستقلون القطارات، والباصات، وهم مشغولون وكأنّ على رؤوسهم الطير، وهم ممسكون بالمتصفحات الرقمية لقراءة رواية، أو مجموعة شعرية، وما الى ذلك من المنتجات الثقافية، يضفي على الحياة اليومية، ظاهرة ثقافية مستديمة، لا فقاعة طارئة، حيث يتجادل أصحاب الاهتمامات المشتركة بجدية منقطعة النظير، حول تفاصيل ما يقرؤون، على رغم أنّ بعضهم يجهل البعض الآخر.
وأبلغ مثال على التغيير الذي أحدثته الثورة المعلوماتية في تحويل الثقافة إلى منتج، المعرض التشكيلي الافتراضي للهولندي فيمن بال، بعدما برمجت له احدى الشركات صالة العرض الرقمية، حيث يمكن التجول فيها بين لوحاته مقابل مبلغ زهيد من المال، كما يتيح لك التصفح الالكتروني للمعرض، شراء مايروق لك من اللوحات، لتصلك إلى البيت في اليوم التالي.
والمثال الناجح لها التحوّل الإيجابي في معنى القراءة وأغراضها، المنصة الرقمية «كودريدز» وتعني «القرّاء الجيدون»، التي تأسّست في 2006 وتضاعف أعداد المشاركين فيها في 2014 الى20 مليون مستخدم من جميع أنحاء العالم، وكلهم يتصفّحون الكتب ويعلّقون على حواشيها، ويغنون بآرائهم، محتوى كتاب ما.
لكن، ما يقول إعلاميونا ومثقّفونا عن ذلك، حيث لم نصل بتقنياتنا ومهاراتنا، الى المستوى الذي نستوعب فيه تقنيات العصر التي لم تقف عند التأسيس لمكتبات رقمية تعجّ بما لا يحصى من الكتب في مختلف المجالات، بل أتاحت لكل قارئ أن يسجل ملاحظته آنيا على الكتاب، لتحفظ معه كمرفق لابد منه في استقصاء ردود
الأفعال.
القراءة.. انقلاب في مفهوم التداول الثقافي
آخر تحديث:










































