حتى هذا القول قد تهشم من داخل معناه وصار خاويا فارغا ومعطلا.. البعض من الكتاب يقولون بأننا نكتب لأنفسنا لإرضائها واقناعها لبلوغ نشوة النصر على الذات وتحقيق المتعة وتمضية الوقت في الظرف الصعب أحياناً.أما القراءة فغالبا لم تعد موجودة عند البعض. فهي عندهم ربما لا تعني شيئا او لا تمنحهم فسحة من التعرف والبحث والتقصي وانتشاء المخيلة واذكاء الذاكرة بالمعلومة والخزين الثري المهم الذي ينطلق منه الكاتب متكئا عليه لتعزيز واسناد كتابته وزيادة قيمتها. للأسف هذا ما يلاحظ لدى الذين فضّلوا غزارة الكتابة على فعل القراءة الحيوي والمعنوي. الكثير من كتاب العراق الكبار في السرد أو في الشعر، يمارسون فعل القراءة اكثر مما يكتبون والامثلة بيننا ومعروفة. هؤلاء اتخذوا من القراءة وسيلة لبلوغ اهداف الأدب النبيلة وغوصهم في التنقيب والبحث عن الجديد والاضافة، رغم أن العمر أخذ منهم ما أخذ ولكنهم ظلوا أمناء للمهمة الرفيعة والاصيلة التي جُبلوا عليها ومتى ما تراه تجده ممسكا بشيء يقرؤه. إن من أهم منافذ الكتابة هو خروجها للجمهور الواسع والترويج لأفكار وثقافة الكاتب خلالها وهذا ما يريده الكاتب بلا شك.. الغريب أن البعض الذي يحب الكتابة لنفسه برأيي لم يقيموا وزنا للآخر القارئ الحذق وحتى إن عرضوا نتاجهم عليه، فهم لم يضعوا نصب أعينهم آراء وحجم اقبال الجمهور على كتبهم لأنها حسب اقوالهم لا تسمن ولا تغني من جوع. لانهم كتبوا لإثبات ذواتهم واعلان حضورهم وغوصهم في الاستمتاع وتمضية الوقت المفيد وممارسة مواهبهم في صناعة منتج يضعون فيه ثقافتهم من الالف الى الياء وأنهم لم يُركنوا على جنب ابداً وهذا ما يذهبون إليه أحيانا.
إن جدل القراءة والكتابة، قد تنسحب على الجميع من دون استثناء فلا يمكن بأي حال من الأحوال الكتابة وضخ البوح وانثيال الحكي من ذاكرة فارغة بيضاء رغم توالي الاعمال باستخدام الموهبة وحدها؛ لأنها من ثم تعلن عن نضوبها في اية لحظة أو يعمد الكاتب إلى تكرار نفسه، إن لم تُعزز بالقراءة الغذاء المهم لها والتي تبقي جذوة الابداع متجددة قائمة.
أما الكتابة الناضجة والمكتنزة بالدلالات والبحث الدائم والمستمر كما يفعل الكثير من الادباء، فهم سيكتبون بلا شك، شيئاً مهما بالتأكيد. هذا المكتوب الغزير سوف يُغربل ويُنقى من طرف المتلقي الحصيف الفطن والحاذق الذي لا يترك شاردة أو واردة ما لم يعطِ رأيه فيها مع أن الكثير من الكتاب لا يعتد كثيرا بتلك الآراء ويعدها غير مدروسة احيانا أو غير علمية كما هو حال النقد.
إن التفاعل بين الكاتب والقراءة تفاعل منطقي لإنتاج أدب جيد وفاخر ومجيد وربما سيناله الخلود لان ما ينتج مليء بالمعاني ومكتظ بالثقافة والحكمة والاختلاف حتما. فمقولة القراءة لك والكتابة للآخر لم تعد تعطي معناها وقصدها والسعي لصناعة الجمال. لأن القراءة باتت في المرتبة الثانية أو الادنى في اهتمام فئة معينة وراحوا يكتبون لأنفسهم حسب ما يقولون. ولا أعرف حقا ما الذي يجنيه الكاتب عند الكتابة لنفسه مثلا؟ مؤكد انها الشخصية التي تميز الاديب عن غيره من الناس وهي خاصيّة القدرة الجمالية في بث روح الابتكار المغلف بمخيلة هادرة. وقد يخفي أسرارا لا نعرفها وفق هذا المفهوم أو تراه يكتب بغزارة. وربما يعرض بعضه للآخر الذي لا يتأثر كثيرا بما يتفوه به تجاه منتجه ويعطي رأيا فيه. فالكاتب المهم الرصين، يضع كل شيء في صلب اهتمامه بداية من الاطلاع على النتاجات الأخرى وبمختلف عناوينها ومعارفها مرورا بالتفكير الحذر واليقظ قبل اطلاق أي نتاج له الى الجمهور، لأنه سيجد نفسه متمثلا في هذا الصنيع الذي لم يجيء مصادفة، بل كان مشوارا متقنا وبارعا وهو ما يؤكد فشل نظرية الكتابة للكتابة المحصورة بينه وبين نفسه من دون الاعلان عنها للجمهور المنتظر، وفشل نظرية الكل منشغل وعلى عجلة من امره من دون التريث واطلاق فسحة من التأمل والاستبصار والروية قبل الشروع بأي عمل ادبي لأنه سيصبح هوية الكاتب وتعريفه. وقبل هذا وذاك فان كل كاتب يختلف عن الكاتب الآخر بكل شيء حسب معطيات الابداع وحجم الصدى الناتج عنه.