مما لا شك فيه بأن الظروف الإستثنائية التي يمرّ بها العراق، وكذلك الأزمات الصحية والاقتصادية التي تعيشها المنطقة والعالم باتت تضفي طابع الحدث الاستثنائي على الزيارة المرتقبة لرئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي الى واشنطن ولقاءه برئيس الادارة الأميركية دونالد ترامب في العشرين من الشهر الجاري ،إذ تأتي هذه الزيارة تتويجا للحوار العراقي- الأميركي حول مستقبل وشكل العلاقة التي تربط البلدين في ظل تحديات يعيشها العراق محليا وإقليميا . وهنا تقفز أمام أذهاننا بعض التساؤلات التي لا يمتلك أجوبتها إلا السيد الكاظمي الذي يستعد بكل تأكيد لحشو حقيبة سفره بكل الملفات والطروحات والأفكار التي ستوضع على طاولة الحوار . فماذا هيئ لملف النفوذ الايراني وماذا عن مستقبل العراق في ظل تنامي دور المليشيات الشيعية ، ما هي رؤيته إزاء الوجود الأميركي المسلح في العراق، كيف وبأي سلاح سيواجه الفساد السائد والمستشري في كل المؤسسات بفعل هيمنة الأحزاب على كل مقدرات الدولة ، هل يحمل أية افكار حول أزمة الكهرباء التي يعاني منها العراقيون ، كيف يفكر إزاء تهاوي أسعار النفط مما سبب إرباكا شعبيا ً داخل العراق كون ان النفط هي السلعة الوحيدة التي يقوم على أساسها كيان البلد و وجوده ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعيشة المجتمع ؟؟؟؟؟
بلا ريب من أن تلك المباحثات ستحُدث منعطفا كبيرا ومستقبليا في شكل العلاقة بين بغداد و واشنطن نظرا إلى إشتداد التنافس على النفوذ الأميركي – الإيراني وبلوغه مرحلة “كسر العظم” بفعل سياسة الضغوط القصوى التي تنتهجها إدارة الرئيس ترامب على إيران وتلويح الأخيرة باستخدام ما تمتلكه من إمكانيات للرد على تلك الضغوط، بما في ذلك استخدام الميليشيات الشيعية التابعة لها في العراق لضرب القوات والمصالح الأميركية هناك.
فمن المؤكد إن زيارة الكاظمي إلى الولايات المتحدة تتقاطع كلياً مع طبيعة العلاقة التي تريدها طهران بين بغداد وواشنطن، حيث لا يرغب الإيرانيون في المزيد من التعاون والتنسيق بين الطرفين بشكل يضيّق مساحة تأثيرهم وتدخلهم في الشأن العراقي، لكنّ أكثر ما يخشونه هو أن ينخرط الكاظمي ضمن محور الضغط على إيران من خلال الالتزام بالعقوبات الأميركية عليها. لذا فأن إيران تتوجّس من أن تفضي الزيارة إلى تفاهمات بشأن كيفية تخلّص العراق من قيود الإرتهان للغاز والكهرباء الإيرانيين مما يسهّل عليه تنفيذ العقوبات، ومخاوف أخرى بشأن الميليشيات المسلّحة وضبط سلاحها وتقوية الأجهزة الأمنية الرسمية عبر الإستعانة بالخبرات والمساعدات التقنية الأميركية.
وعلى ضوء هذه الخلفية فمن المتوقع أن يتعرّض الكاظمي إلى ضغوط شديدة قبل الزيارة وبعدها من أتباع إيران في الداخل العراقي، بهدف قطع الطريق أمام أية تفاهمات عميقة قد يجريها مع الولايات المتحدة ، أو أن يبرم اتفاقات على تصفية الفصائل الولائية المسلحة أو الحد من قدراتها من خلال السماح باستهداف مقراتها وقياداتها ، حيث إن سماح الحكومة العراقية للولايات المتحدة بنصب منظومة لإعتراض الصواريخ داخل مجمع السفارة الأميركية في بغداد كان رسالة واضحة تشير إلى استعداد العراق لتسهيل عملية اعتراض أي خطط إيرانية في المنطقة ، وقد أسهمت المنظومة الأميركية بالفعل في إعتراض هجومين صاروخيين على السفارة الأميركية نفذتهما ميليشيات عراقية تابعة لإيران ، ما يعني خسارة هذه الفصائل امتياز الهجوم على أهدافها في أي وقت تختاره .
وحتى موعد الزيارة المرتقبة علينا أن نستقرئ ما تنطوي عليه سلة الأفكار التي سيحملها رئيس الحكومة العراقية معه الى البيت الابيض ، فأن كان يريد أن يلعب دورا ما في ترطيب الأجواء بين طرفي الصراع وأن يسعى إلى التأكد من أنه لن تنفجر مواجهة بين الطرفين خصوصاُ مع تزايد معاناة طهران العميقة من آثار عقوبات واشنطن عليها في المجال الاقتصادي واقتراب موعد الإنتخابات الأميركية ، عندها ستكون بوصلة حساباته بالإتجاه الخاطئ بسبب عدم الفهم الواقعي لطبيعة هذا الجوار الذي فرضته الجغرافيا الحمقاء . فالتاريخ حدثنا ولازال يحدثنا عن عدد هائل من الأحداث والمواجهات أخذت أشكالاً متعددة من الصراع بين الفرس وبين من سكنوا بلاد مابين النهرين ابتداءً من العراق السومري وانتهاءً بالعراق العربي ، فالمتتبع للتاريخ سيجد ان العلاقة بين الجارين إتسمت بالعداوة أكثر من الصداقة ، وبهيمنة القوي على حساب الضعيف ، لذا على السيد الكاظمي أن يفهم عمق العلاقات التأريخية المتشنجة مع هذا الجوار ، وصولاَ لحقيقة مفادها بأنه لا يمكن التعايش مع ايران قوية وعراق ضعيف ، فلطالما كسُرت الشوكة الايرانية أمام قوة شعوب بلاد الرافدين وصمودها عبر مراحل التأريخ ، لكن العراق الضعيف والهزيل الذي ولد عام 2003 كان للأسف لقمة سائغة سال لها اللعاب الفارسي ونتج عن هذا الضعف ما نعيشه من ألآم ومحن منذ 17 عاما من هيمنة ايرانية واضحة وملموسة في الميادين السياسية والاقتصادية ، حتى باتت صناعة القرار الذي يتعلق بالعراق ومستقبله وسيادته تعُد في مطابخ طهران. وبناءً على ما تقدم اتمنى أن لا يقوم السيد الكاظمي بلعب دور حمامة السلام بين طهران و واشنطن وأن يعي التأريخ جيداً فلا خيار أمامه (إن صدقت نواياه ) إلا أن يمضي بإتجاه فرض السيادة العراقية وتدعيمها مستغلاً ما تبقى من العلاقة الطيبة مع واشنطن والتي تحاول الاحزاب الولائية بشتى الوسائل جعلها متوترة .كما أتمنى عليه أن يتسلح بالوضوح والجرأة في كل ما سيُطرح على طاولة الحوار من ملفات شائكة تتعلق بمستقبل العراق الذي وصل الى مفترق الطريق بين أن يكون أو أن يضيع ويتمزق ، فهي الفرصة الأخيرة بإعتقادي أمام النظام السياسي لعراق ما بعد 2003 برمته وليست أمام الكاظمي لوحده .
كما نأمل بأن تكون العاصفة الاقتصادية التي تضرب العراق في مقدّمة الملفات التي ستستحوذ على إهتمام طرفي الحوار وأن تثمرعن مساعدة أميركية حقيقية للعراق في تجاوز أزمته المالية الحادّة والناتجة عن تزامن جائحة كورونا و أزمة إنهيار أسعار النفط . ولشدة اليأس والإحباط الذي يعيشه الشعب العراقي مُكللاً بثورة تشرين وما أفرزته من حقائق ، لا نملك إلا أن نكون متفائلين بقدرة الكاظمي في التفاوض مع الطرف الأميركي حول جميع الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية كحزمة واحدة وأن لاينسى بأن وجوده على رأس السلطة التنفيذية كان من ثمار ثورة تشرين العظيمة ، وأن السعي باتجاه الحلول التي تؤمن عيشا رغيداً ومستقبلاً واعداً للشعب هو جزء كبير من الوفاء الذي قطعه على نفسه أمام الشعب .
وعلى الجانب الأخر من طرفي الحوار أتوقع أن تقوم إدارة الرئيس ترامب على سبيل إغراء بغداد للإبتعاد عن طهران بتقديم بدائل مادية مجزية لها خصوصا ً مع اشتداد وطأة الأزمة المالية التي يمر بها العراق وإمكانية لجوئه إلى الاقتراض الخارجي، وهو أمر يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دوراً فيه عبر التوسط لدى المُقرضين سواء تعلّق الأمر بالدول الصديقة لها أو بصندوق النقد الدولي حيث تتمتّع بنفوذ قوي ، ولربما سيكون هناك دعماً كبير لقطاع الطاقة في العراق و تشجيع الشركات الأميركية الكبرى على العمل مباشرة في الميدان ، وهذا ما نتطلع أليه لغرض عبور الأزمات الخانقة التي يعاني منها العراق . لذا فأن السيد الكاظمي أمام امتحان عسير وعليه أن يثبت مهارته بالنجاح في هذا الإختبار وان يتجه للمحور الاميركي الذي لا خيار لنا عنه وان يركز على جر العراق لأن يكون جزءاً من أمن الولايات المتحدة الامريكية القومي والاستراتيجي وحليفاً صادقاً ، وأن جغرافيا الأمن القومي الأميركي في الشرق الأوسط لا تتمثل بإسرائيل ودول الخليج العربي فقط ، بل تشمل العراق الذي نتمنى ان نراه شريكا قوياً وقطباً مؤثراً في المنطقة ، من خلال عقد الاتفاقيات التي تحمي وجوده وسيادته وتعزز من مكانته الاقتصادية والسياسية مع كل الاطراف الفاعلة في الشرق الاوسط ، وبخلاف ذلك وبغياب القط الأميركي سيبقى العراق ملعباً ومرتعاً خصباً للجرذ الإيراني الذي لن يدخر وسعا ً في تمزيقه وإضعافه .