الرواية مرت بأطوار كثيرة وعديدة في سيرورتها التاريخية، وانتقلت من مرحلة كتابة الى أكثر جدارة وتطورا سياقيا وفنيا وجماليا، واذا كان القرن التاسع عشر هو عصر الفخامة والهيبة الروائية، فإن القرن العشرين هو عصر الفن الباهر، وقد لعبت استعارة جيمس جويس رودريكن وتقديمه بروح معاصرة ذات جرأة ادبية لا تهتم لكل تصنيفات التلقي، وبعد عصر التباهي جاء عصر الفن والمناورة والتندر والدهشة، وقد أتاحت آخر مراحل الحداثة للفن الروائي التمظهر الاوسع حرية في التجريب، وجاءت ما بعدها ما بعد الحداثة في صيغتها الميتافيزيقيا الموضوعية، لتمنح الفن طاقة مضافة وحرية تجريبا اوسع، وبعد انتقال المؤلف من كونه مثالا للعالم في السرديات الكبرى، صار مثالا لنفسه في السرديات الصغرى التي انفلتت من مؤشر الواقعية الى مثال نوعي وخاص لها، وقد اتاحت ما بعد الحداثة للروائي نقض نظرية موت المؤلف، وقد لامسنا عملا روائيا جديدا للروائي احمد خلف لم يكن ينقض نظرية موت المؤلف إلا ببعدها العام، وفي رواية – البهلوان – إذ وجد المؤلف بصيغة ورقية وبشرية في آن واحد، وقدم لنا تجريبا اسلوبيا ليس من السهل تجريبه.شكلت الإشارات الواردة في الكتابة المتعددة لوجود المؤلف داخل المتن السردي بدور ورقي وبشري حر، اكثر من تأكيد دال لنا، اي نحن في تحليلنا سنكون امام سلطة تامة خارجيا على سياقات الكتابة، وذلك امر مبرر بنفسه ولا يحتاج الى تفسير، فعضوية المؤلف هي جهة انتاج بشري بوعي وتجربة، وهي المقابل الدلالي الاشهاري، والذي يقابله الكترونيا اشهاريا عنونة منتجه الروائي، ونحن لا نقف عند ذلك التقابل في استدلالنا بل سنتوغل في بنية النص المكتوب ساعين الى تحديد الصفحات والجمل الدالة على ذلك، وهنا نحن سنكون ازاء بناء ما بعد حداثي يتطلب تفهمه كمبنى متفرد رغم وجوده داخل متن الرواية العام الذي فيه قطعت الوحدات السردية الحكاية وجعلتها كما حبات مسبحة، وهنا مقصدنا فني الصفة اجل الخطاب والمستوى الفكري والتحولات الاجتماعية غير المتوازنة.لقد اشرنا ثلاث اشارات على وجود المؤلف داخليا، وسعينا الى عدم تشابها فتكون وحدة تجزأت الى ثلاث وحدات، بل نحن ازاء وحدات ثلاث تختلف حتى في سياقات تقديمها سردا او وصفا، لكن تنطلق جميعا بالتوازي لتأكيد فكرة وجود المؤلف داخليا بصيغة ورقية وبشرية بذات الوقت، وقد تنوعت ايقاعات تلك الوحدات، واشارت اول تلك الوحدات الى – قبل تلك الايام لم يكن بطل روايتنا سوى عامل في اجور يومية – وتلك الاشارة ذات عدة وجوه، وفيها كان المؤلف اشبه بضمير وجداني وانساني داخل الرواية، وفي ثاني الاشارات هناك توجه اخر هدف به المؤلف لتفسير معنى اخر – نحن بدورنا جعلنا من انفسنا ساردين لسيرة هذا البطل، الذي نعته الاسطة (محمود) بالبطل المزيف او البهلوان – ووعي المؤلف الانساني قد اتجه الى معنى اخر لكشف تبئيره بالنسب الممكنة،فضلا عما عنت لكشف الوجه العام له العنونة في وصفها إياه، والمبادرة النوعية التي أتيح فيها للمؤلف معالجة بعض الظروف وليس التدخل بالمصائر،إذ في ثالث الاشارات كان اوسع مهمة – وحكاية الأم تكاد تكون مستقلة، يتردد الراوي بحكايتها علينا لأنه يعتقد انها حكاية ملحقة في روايته – ولا بد هنا أن نقف على مميزات الوعي وخطابه المتفوق، والذي يملك تمرسا فنيا من وجهة نظر جانبية نجده قد انتج حقلا نقديا ادخل مضمون جمل تلك الاشارة الأخيرة، حين جعل ما يخص الأم متنا حكائيا ويحتاج من ثم الى معالجة فنية ليضاف الى المتن الروائي، وتلك اضاءة اكثر مما هي اشارة لفن وجود المؤلف داخل متنه، لتكون هناك كتابة داخل الكتابة.