المالكي في اربيل ، والبرزاني في بغداد ، وكأن شيئا لم يكن ، العناق والتهادن حل محل التهديد والتصعيد ، زيارات ، ومجاملات ، وتصريحات متفائلة !
ياترى هل حلت الخلافات بينهما ، وهل سويت تناقضات سياساتهما ، ام هي هدنة متحاربين يؤهل فيها كلا منهم نفسه للبيعة القادمة ، ليعود بعدها مجددا يدور في حلبة التناطح نحو مكاسب جديدة وهكذا ، ام هي شهر عسل اجباري استعدادا لاحتواء تداعيات شهور البصل المتوقعة على متغيرات الداخل والخارج ؟
على مدى عامين كاملين كانت حدة الخلافات المترجمة الى مواقف واجراءات ومناكفات واتهامات بين الرجلين وحزبيهما ، قد وصلت حد الاحتقان والقطيعة وتبادل التهديدات بالثبور وعظائم الامور ، فلم يمضي عام كامل على سريان مفعول اتفاقية اربيل الموقعة تحديدا بين المالكي والبرزاني في 8 آب 2010 والتي اسدلت الستار على ازمة تشكيل الحكومة المركزية بعد الانتخابات العامة التي جرت في 7 اذار 2010 ، حتى برزت على السطح معالم ازمة مستفحلة بين الطرفين ، وكان الخلاف الاهم يحوم حول عقود النفط والغاز التي يبرمها الاقليم مع الشركات العالمية من وراء ظهر الحكومة المركزية ، ثم انعكس الامر لاحقا على تحديد حصة الاقليم من الميزانية الاتحادية ، وتطورت الامور الى ماهو ابعد من ذلك ، فالبرزاني راح يغالي بالتقرب في علاقاته مع اردوغان تركيا وفي تبنى مواقفه ازاء العراق وسوريا ، وتمادى في الاثارة عندما طالب الدول التي تعاقد المالكي معها لشراء الاسلحة ، بالامتناع عن تزويد الجيش العراقي بها ، الا بعد تعهد بغداد بعدم استخدامها ضد الاكراد ، وداخليا راح ينسق مع خصوم المالكي في العملية السياسية لسحب الثقة عنه ، وفعلا شكل مايشبه التكتكل النيابي بين نواب قائمة اياد علاوي والتيار الصدري والتحالف الكردستاني لغرض الشروع باجراءات سحب الثقة وكادت تنجح المحاولة لولا انشقاقات القائمة العراقية ، وايد البرزاني مطالب المعتصمين في المناطق الغربية معتبرا اياها دليلا عمليا على فشل المالكي واستبداده ، ثم توالت مقاطعات وزراء ونواب التحالف الكردستاني للجلسات في بغداد بالتناغم مع مقاطعات التيار الصدري والبعض من اعضاء القائمة العراقية ، لكن الجميع عدل عن المقاطعة بعد ان وجدها خاسرة !
المالكي من جهته شد حبل التشدد فشكل قيادة عمليات دجلة وادخل في صلب مهامها الاحاطة بما يسمى بالمناطق المتنازع عليها بين المركز والاقليم ، واوعز لنائبه حسين الشهرستاني بحرمان الشركات النفطية التي تتعاقد مع حكومة الاقليم من اي مناقصة نفطية او غازية داخل العراق ، وذهب ابعد من ذلك عندما اقترح قانون الميزانية العامة وتحديد نسبة الاقليم من دون مراجعة ممثليه وتم اقرارها برلمانيا بغياب نواب التحالف الكردستاني !
الحرب الاعلامية بين الطرفين لم تهدأ الا بعد زيارة نوشيرفان برزاني رئيس حكومة الاقليم الى بغداد والتي اتفق فيها مع المالكي على تشكيل لجان مشتركة لوضع حلول عملية للمشاكل العالقة ، واتفق الجانبان على ضرورة تطبيع الاوضاع مجددا من خلال تبني نوعين من المعالجات ، قصيرة الاجل لعدم تعطيل الشؤون العامة ، وطويلة الاجل للمباشرة بحلحلة القضايا المزمنة كتطبيق المادة 140 من الدستور الخاصة بالمناطق المتنازع عليها وتشريع قانون النفط والغاز ، وعليه كانت تلك الزيارة فاتحة لعملية التطبيع التي كرسته زيارة المالكي الاخيرة لاربيل وبالمقابل زيارة البرزاني الاخيرة لبغداد !
الدوافع الحقيقية لهذا التصالح الجديد اوالتطبيع الذي يشبه الهدنة ، هو حاجة الطرفين الى التفرغ لمعركة التجديد لولاية ثالثة وحاسمة في تثبيتها لنفوذهما على ما ملكت ايمانهما ، فالمالكي لا يريد ان يخوض كل معاركه في وقت واحد وعلى كافة الجبهات ، يكفيه حاليا صراعاته داخل التحالف الشيعي ، وتحديدا مع جماعتي ، المجلس الاسلامي الاعلى والتيار الصدري ، صاحبي كتلة المواطن الانتخابية وكتلة الاحرار اللتين اثبتتا نديتهما المتفوقة على كتلة دولة القانون في انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة ، اضافة لصراعاته التقليدية مع كتلة العراقية الموحدة بقيادة اياد علاوي التي كادت ان تسحب البسط من تحته في الانتخابات العامة عام 2010 ، وعليه فهو مشغول الان بتعبيد الطريق الى الظفر بولاية ثالثة لرئاسة الوزراء ، من خلال النجاح الحاسم في الانتخابات العامة التي ستجري في اذار 2014 والذي يتطلب ميدانيا اضعاف منافسيه ، في المعسكر الشيعي جماعتي عمار الحكيم والصدر ، وفي بغداد والغرب والشمال انصار اياد علاوي والنجيفي ، وذلك من خلال شق صفوفهم جميعا واحتواء اكبر عدد ممكن من اتباعهم !
مقدما قد افشل المالكي توجه منافسيه لتشريع قانون تحديد ولايتين متتاليتين للرئاسات الثلاث ، وهو الان عازم على الدفع باتجاه تشريع قانون للانتخابات يصب بطاحونة اعادة انتخابه ، وتأجيل تشريع قانون خاص بالاحزاب ، ليتمكن وبسلاسة من استخدام ادوات السلطة ونفوذها للتأثير على سير ونتائج العملية الانتخابية ، خاصة وان المفوضية العليا للانتخابات ستكون خاضعة وبطرق غير مباشرة لادوات السلطة التنفيذية ، مثلها مثل القضاء الذي لا يملك من الاستقلالية الحقة غير الشعار ، ومن اجل تحقيق هدف الفوز بولاية ثالثة سيفعل المالكي الافاعيل حتى لو كلفه ذلك تقديم تنازلات غير متوقعة للبرزاني لاتقاء شر اي عرقلة محتملة منه لترتيب حصص الرئاسات الثلاث بعد الانتخابات القادمة ، خاصة وان المالكي لا يملك اوراق ضغط انتخابية في مناطق البرزاني المغلقة على نفسها ، ومن هذه التنازلات ، التسليم بعقود الامر الواقع التي ابرمها الاقليم مع شركات النفط العالمية واعتبار نسبة 17 بالمئة كحصة ثابتة للاقليم من الموازنة الاتحادية حتى اجراء احصاء سكاني جديد ، وربما الموافقة على صرف نسبة سنوية من ميزانية وزارة الدفاع لصالح قوات البيشمركة وتسليحهم كحرس محلي للاقليم ، هذا اضافة الى الاستعداد لتقزيم دور قيادة عمليات دجلة في المناطق المتنازع عليها !
دوافع البرزاني لاتختلف كثيرا من حيث الجوهر عن تلك التي عند المالكي ، فهو ايضا مهموم بقضية الولاية الثالثة لمنصب رئاسة الاقليم ، وفي حالته فان الامر اكثر تعقيدا من المالكي ، لان مسودة دستور الاقليم تنص على ولايتين فقط ، وقوبلت محاولات حزبه للالتفاف على الدستور من خلال التصويت على التمديد لسنتين للرئيس والبرلمان في كردستان باستهجان صارخ من لدن المعارضين من حركة التغيير والجماعة الاسلامية ، ومازال الامر سجالا برغم تصويت نواب حزبي البرزاني والطالباني لصالح الموافقة على تمديد فترة الرئاسة والبرلمان ، وبرغم وعود البرزاني بطرح مسودة الدستور على الاستفتاء الشعبي خلال فترة التمديد ، يبقى الامر بالنسبة له مقلقا حتى وان تنازل عن ولاية ثالثة بعد انتهاء فترة التمديد لصالح ابنه او ابن اخيه لان هناك مرشحون اخرون سيكونون اندادا خارج تغطية المحاصصة التقليدية بين حزبي البرزاني والطالباني ، وعليه فان تفرغه لمواجة خصومه داخل الاقليم هو هدف ملح وان كان مرحلي ، لاسيما وان كل محاولات استبدال المالكي او سحب الثقة منه قد فشلت ، اضافة الى كون اوضاع حزب الطالباني ليست على مايرام نتيجة للصراعات الدائرة في اروقته على خلافة زعيمه المريض جلال الطالباني ، الذي ربما سيترك غيابه فراغا لا يستطيع البرزاني التحكم بابعاده !