علي الجفال
ميزانية العراق خاوية إلا من رحمة الله التي لا تنزل على العراقيين حتى يغيروا ما بأنفسهم. والتغيير الجزئي الذي حصل بتولي حيدر العبادي رئاسة مجلس الوزراء هو في حقيقته تغيير حذر لانه يجري وسط حقل من الألغام. الغام الفساد المستشري في مفاصل الدولة، والغام السياسيين الفاسدين والفاشلين الذين امتطوا صهوة السلطة مجددا من خلال مناصب جديدة أغلبها أرفع من مناصبهم القديمة، وفساد الخطاب الطائفي الذي أصبح “وجهة نظر” يتبجح بها فرسان الطائفية ليل نهار من على فضائيات مكرسّة أصلا لهذا الغرض.
المالكي الذي إلتهم هو وبطانته الفاسدة ميزانية البلد، وترك العراقيين يتلظون بنار الخوف من غد أكثر سوداوية تفرضه ظروف الضنك الاقتصادي، يسير، من حيث يدري أو لا يدري، نحو المقصلة. ثمة الكثير من الاسئلة التي لو أثيرت الآن، وهي ستثار حتما، لمهدت طريقه الى تلك النهاية المحتومة. كيف وأين صرفت هذه المليارات التي تعادل ميزانية خمسة من دول المنطقة، وأكثر من ميزانية عشر دول أفريقية؟.
وفقا للقانون، فان حكومة المالكي لايمكنها التصرف بالميزانية قبل إقرارها من قبل البرلمان الا بما يعادل 1/12 من ميزانية العام السابق 2013. وبلغة الارقام فان ميزانية عام 2013 بلغت 118 مليار دولار، أي ان حكومة المالكي تمتلك حق التصرف بما يساوي 9مليارات و833 مليون دولار منها شهريا. وبلغة الارقام أيضا فان مجموع ما يمكنها التصرف به لغاية نهاية آب من هذا العام هو 78 مليار و066 مليون دولار، مع ملاحظة ان معظم الوزارات العراقية لم تنفق نصف ميزانيتها المقررة لعام 2013، وكذلك الحال بالنسبة لمعظم المحافظات، ومع ملاحظة ان الحكومة المركزية لم تدفع حصة إقليم كردستان البالغة 17% من أصل موازنة 2014، ومع ملاحظة ان حكومة المالكي وفور إجراء الانتخابات النيابية نهاية نيسان الماضي أصبحت حكومة تصريف أعمال لا يحق لها عقد الصفقات والالتزامات الدولية الاستراتيجية كعقود التسليح وغيرها.
واحدة من أكثر المفارقات “المالكية” هي ان ميزانية المؤسسة العسكرية لعام 2014 كانت 14 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من ضعف ميزانية المؤسسة العسكرية الامريكية التي بلغت لذات العام، 6 مليارات و526 مليون دولار. وانها تعادل بالتمام والكمال ميزانية العراق كاملة لعام 2003 التي بلغت آنذاك 14 مليار دولار. والمفارقة الأكبر ان أهم إنجازات هذه
المؤسسة تحت رعاية المالكي وبهذه الميزانية الفلكية، هو تسليم أكثر من ثلث مساحة العراق لقوات داعش دون قتال، وخلال بضعة أيام فقط.
العبادي الذي يسير على سكة الاصلاح بحذر وسط أولئك الذين يتقافز الف شيطان بين حبات مسبحاتهم وتغفو العقارب السامة في أحجار الخواتم التي تزين أصابعهم، يحاول أن يستثمر الى الحد الأقصى لحظة الوئام بين المكونات العراقية وبين رئاساتها أيضا، لكي يتجنب الوقوع في فخ التسطيح والتسويق لمنجزات حكومية وهمية على شاكلة سلفه المالكي، لذلك، يدشن الرجل مشروع ترشيق نفقات مؤسسات الدولة والقائمين عليها من نافذة مجلس الوزراء، أي من داخل عرينه أولا، كما انه يحاول جاهدا إسقاط حجج إقليم كردستان من خلال محاولته تصفير المشكلات بين الجانبين، إضافة الى حربه التي يشنها من أجل تعقيم المؤسسة العسكرية من أوكار الفساد التي عششت فيها خلال العقد الماضي نتيجة سياسات يعلم العراقيون خباياها وخفاياها. لكن هذه الانجازات مجتمعة لا تعني سوى الخطوة الاولى، وهي خطوة خجولة ما لم يلتفت العبادي الى الخلف بغضب، ويفعل عمل الجهات المشرفة على النزاهة، وهي هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية ودوائر المفتشين العامين في الوزارات، وتحريك ملفات الفساد دون خوف أو مجاملات سياسية أو حزبية، وعليه أن يطالب دول العالم بتسليم اللصوص الذين سرقوا ثروات العراقيين ولاذوا بالفرار متخندقين خلف جنسياتهم التي يحملونها الى جانب الجنسية العراقية، مثل وزير التجارة الأسبق عبدالفلاح السوداني ووزير الدفاع الأسبق حازم الشعلان والمئات غيرهم، وهذا الامر لن يتم إلا بتفعيل إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (يو.أن.سي.أي.سي) التي صادقت عليها أكثر من 165 دولة بضمنها العراق ودخلت حيز التنفيذ في كانون الثاني 2005، والتي تبيح للعراق المطالبة بتسليم الفاسدين الهاربين مع الاموال المنهوبة، طالما كانت الدول التي يحملون جنسياتها مصادقة على نص الاتفاقية. ولا أدري ان كان عدم تفعيل مثل هذه الاتفاقية والعشرات غيرها حتى الآن، يأتي بفعل التقاعس أو عدم الدراية أو التواطىء مع الفاسدين؟.
قد يقف العراقيون مع العبادي في خطواته الاصلاحية، ولكنهم لم ولن يصمتوا عن نهب ثرواتهم من قبل المالكي وبطانته الذين أوصلوا البلد الى حافة هاوية اقتصادية قد تضطر الناس الى شد الحزام، المشدود أصلا، بذريعة التقشف الذي تسقط كل مبرراته في حال إستعدنا ثرواتنا المنهوبة.