من قصص التأريخ، يروى أن عطشا اشتد بأعرابي وهو في طريقه الى بغداد، فاتجه صوب بيوتات لاحت له في الأفق، وطرق باب أحدها مستسقيا من أهلها ماءً، ففتحت له الباب امرأة تفوق البدر سناء، فبادرها قائلا: “أيسر ماعندكم أريد ولاأريد أصعب ماعندكم”.. ومن دون ان تستفهم منه مايقصد، دخلت بيتها وأتت اليه بكأس فيه ماء، إذ معلوم عند العرب أن أيسر شيء هو الماء، وأصعب شيء هو الشرف، وما إن شرب وارتوى حتى بادرته بقولها: “لو كنت اعرف اسمك لقلت لك هنيئا”، فقال لها: “اسمي على وجهك” فقالت له على الفور: “هنيئا ياحسن”. فأردف بدوره قائلا لها: “لو كنت اعرف اسمك لقلت لك شكرا”، فقالت له: “اسمي على جنبك” فقال لها: “شكرا ياهند”..! إذ كان متقلدا سيفا على جنبه وهند اسم من أسماء السيف.
هكذا هم العراقيون لهم من سرعة البديهة مالايمتلكه غيرهم، فقد اجتمعت فيهم روح البداوة وخصالها المتمثلة بالصبر والشهامة والمروءة وقوة الفراسة، كذلك هم يتمتعون بصفات التحضر والمدنية، فكان بهم تكامل في الشخصية والثقافة والطباع.
أسوق ماتقدم وأنا أرى في عراق القرن الواحد والعشرين نماذج من شخوص، أستبعد ان يكونوا من نسل “حسن” او “هند”، إذ هم لاينتمون الى خصلة حميدة او نصف حميدة او حتى ربعها..! فمع تناسل بني آدم تناسل الخير والخيرون من دون انقطاع، مقابل هذا تناسل وتناسب وتصاهر الشر والشريرون في مناكب الأرض، فبدت موازينها معتدلة تارة بفعل بسط الخيرين أفكارهم وأفعالهم، ومقلوبة تارات أخرى بفعل الشريرين ومعتقداتهم ومكائدهم وغدرهم. فهم -الشريرون- اعتادوا الخراب، ولايهنأ لهم عيش إلا بإشاعة الدمار وسط معيتهم وإن كانوا من أبناء جلدتهم. ومعلوم أن أرض وادي الرافدين شهدت منذ الأزل تكالب الشريرين عليها، مع أن أغلب الخيرين والصديقين والأولياء والأتقياء عاشوا فوق أرضها، وكثير منهم وارى ترابُها جثمانَهم، فاكتسب بضمهم قيمة عليا سمت بسموهم وعلت بعلوهم.
وأرض مثل هذه يتوجب الحفاظ على إرثها الحضاري، وهذا لن يتم إلا ببسط القوة والقدرة والسيطرة والهيمنة لدى حاكميها، ومن يتقلدون مراكز السلطات العليا فيها، لاسيما المسؤولون عن حمايتها، وتزداد الحاجة الى القوة أكثر من هذا، عندما يطفو على السطح نفر ضال ليس لاعوجاجه تقويم بالنصح والإرشاد، فتغدو القوة بكل اتجاهاتها ودرجاتها، الوسيلة الوحيدة في التعامل مع انتهازيين ونفعيين ومفسدين، لايمتلكون من الشرف والقيم والأخلاق والمبادئ حدا أكثر مما موجود في الضباع والثعالب، لما تحمله من صفات المكر والغدر والخديعة.
إن مفسدي اليوم يمتلكون من الشر وجهين، الأول ظاهر يتمثل بأقوالهم، والثاني باطن متمثل بأفعالهم ونياتهم المبيتة، وهو في حقيقة الأمر أضحى أكثر وضوحا من الظاهر، وأقرب للقراءة والإدراك منه، فصار لدى العراقيين سيان حالا الباطن والظاهر. فأقوال المسؤولين غالبا ماتكون مقروءة قبل نطقهم بها، لاسيما بعد أن خبرهم العراقيون وأدركوا تماما مبتغاهم في المفردة التي يتفوهون بها، وهذا طبعا بفضل تصريحاتهم خلف مايكروفون هنا أو على منصة هناك، وقد فاتهم ان العراقيين مازالوا يتمتعون بما يتمتع به “حسن” و “هند”، وأغلبهم كما نقول؛ “يقرون الممحي”. فقد باتت تصريحات الساسة مقروءة قبل بثها، كما اتضحت النيات المبطنة والمعلنة على حد سواء، حتى صارت محسوسة وملموسة.
هذا ما نقرأه اليوم ونسمعه ونراه جملة وتفصيلا، مع الكم الهائل من السياسيين الذي لايعرفون من السياسة غير التصريحات التي يبدون فيها التطمينات، وإطلاق المواعيد العرقوبية التي يحقنون المواطنين بها كجرعة مخدرة الى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.