في خضم التحولات التي حصلت في عراقنا، وطالت جميع الصعد والبنى وزلزلت عدداً من المفاهيم والقناعات، كيف يمكننا النظر إلى المثقف كذات فاعلة – في الدور الحضاري متمماً لعملية التعالق الجوهري ما بينه وبين مجريات شؤون الثقافة وأعمال الفكر، يسبق نظرنا هذا أن ثمة شروطاً موضوعية داخلية وخارجية، استناداً إلى بعض الطروحات التي ترى أن المبدع هو حصيلة ضغوطات الداخل والخارج، هذه الشروط التي تأخذ بنظر الاعتبار (الزمن) كقوة مؤثرة في تنمية الخطاب الثقافي وجعله حاضراً كأثر إبداعي راسخ من جهة وفي مواجهة ساخنة وحاسمة ضد كل محاولات الاستلاب والاندثار من جهة ثانية بغية تأسيس قيم عضوية جادة ترسخ الثقافة كـ (كليانية) وجودية لها مفاعيلها الحاضرة أبداً ظاهراً وباطناً وبما يؤمن حداثتها المستمرة وصيرورتها المتجددة لتحولات الفكر الإنساني ومساره التنويري، شروط موضوعية تكون بمثابة محركات بحثٍ لاكتشاف مناطق أعمق غوراً وفاءات أكثر اتساعاً لهضم تحولات العالم وقفزاته الحضارية، وبالتالي تجد الذات المثقفة مناخاً تتنافذ فيه عملية الخلق الإبداعي عبر توجهاتها الساعية لاكتشاف دائم إلى ما هو بحاجة إلى كشف.
* ترى أين يكون المثقف / المبدع العراقي الآن وهو في محنته المعاصرة؟
– هل هو في مفترق طرق وعليه لا بد من اختيار؟
– هل هو في حاله تراجع خلف الصفوف التي تصدرت المشهد العراقي الآن، سياسياً وحزبياً وفئوياً وطائفياً؟
– هل الظروف الراهنة واختلالاتها جعلته في نفس النفق المظلم الذي كان يعاني ويلاته من تهميش وقمع ومصادرة للحريات بفعل ضواغط المؤسسات الشمولية؟
– هل سيبقى في حالة انتظار دائم وهو يخوض معركة بقاءه الشرسة مع الأزمنة المريرة، بانتظار الذي يأتي ولا يأتي من نهارات محملة بأكاليل الغار؟
ولكن ما هي ضمانات الصمود الأسطوري لديه، الصمود الذي يحول المواجهة العزلاء إلى انبعاث جديد، والذي يجعل من مساحة النزال الدامي الحاضر بقوة، مستقبلاً وروضاً عاطراً أو سفر امن خلود مبتكراً من انتظاره أل (غودوي) أفقاً مفعم بالحرية والخلاص ترى، هل يبدأ ويعد العدة للعمل بقوته الدافعة، نحو البحث عن خصوصية الموقف (أثبات الوجود كقدرة فاعلة)، ومن ثم اكتساب الهوية الإبداعية التي تعمل عملها كشراع يدفعه وسط الخضم المتهالك للمشهد الواقعي، وصولاً لملامسة التخوم لإيصال صوته.
هل عليه أن يجدد موقفه (النضالي) عبر ما يشهده وما شهده من تحديات، وما رافقها من تحولات أيديولوجية وعقائدية، ليس أولها مفهوم الالتزام واللالتزام وليس انتهاء بالانتماء الطائفي؟ إذ كيف له أن يدجن حياة تشهد انتصاره في آخر المطاف .. وأن يكون كقيمة عليا، ربيباً لكلكامش في رحلته الأسطورية بحثاً عن نجد أو عشبة خلود، كمسعى للتعبير عن قيمة الحياة وجدواها، وهي كمعطى إلهي لابد من استثماره، مؤكداً قدسية المنجز الذي يسعى إليه والذي يكون الأدب أحد وجوهه الناصعة.
فلماذا إذا ظلال الهزيمة تطارده، وتقتحم خلوته الشكوك، وها هي أظافر (خمبابا) تنوش النوافذ، وتستبيح الطرقات بحثاً عن ضحية، وها هي عواصف الزمن الصعب تجدد هبوبها وتضعه في مواجهة ساخنة، وربما غير متكافئة بين قطبين ..
– الحلم وقدرة الابتكار .
– ومشهد الرماد الذي يستطيل ليفترش مساحة أكثر تناسياً وأبعد تجهيلاً ..
قراءة لهذا يطالعنا المشهد الثقافي العراقي والذي تتداخل فيه صياغته هموم شتى على وفق آليات القاعدة والاستثناء، أبرزته مرحلة ما بعد الاحتلال، وكأنه نوع من اللاإدارية الواضحة مبرزة بشكل أوضح لدى المؤسسات الرسمية في طبيعة تعاملها مع المثقف / المبدع العراقي يتصدر بواباتها المسؤولون أنفسهم وأصحاب القرار وحتى الآن تبرز نتائج هذا التهميش، فهل يندرج هذا ضمن وعي مبرمج ومصالح ضيقة؟ أم هو الإهمال والفوضى في إدارة مؤسسات الدولة، وبالتأكيد المؤسسات الثقافية جزء منها؟
إن مؤشر الحراك الثقافي في بلدنا يؤشر عزلة من نوع ما يشهدها المثقف / المبدع ، ذلك لا يعني بالطبع ما نريده هو تبعية المثقف / المبدع بخطاب المؤسسات الرسمية وجعله موظفاً يعمل باشتراطاتها، وفي نفس الوقت لا نريده مثلما تطلق الأدبيات الأخرى ؛ مثقف الأبراج العاجية، وإنما هو ذات تصنع حريتها، بامتلاكه مجسات التحسس لما يدور حوله، عبر قراءاته الفاحصة والدقيقة لمفاصل مهمة للوقائع والأحداث، ومن ثم إعادة إنتاجها نصياً بلغة تكتب تاريخها الخاص المنتمي لدوائر الفن والفكر الإنسانيين، هذه العزلة أرجأت مشاريع عدة ، رغم الحضور الأدبي لعدد من المبدعين العراقيين الذين حصدوا عدد من الجوائز في المسابقات الأدبية العربية، لكن هذا يصب في خانة الجهد الفردي والحراك الذي أتاحه الجانب الاتصالي عبر الإنترنت للمشاركة في هذه المسابقات، خلاف هذا نلحظ المزاح والمحاصصات والعلاقات غير نظيفة في إرسال الوفود الثقافية للمشاركة في مهرجانات والأسابيع الثقافية التي تقام في بعض العواصم العربية، والتي لا تمثل الجانب المشرق من الإبداع العراقي، كل هذا وغيره يشكل نكوصاً مفروضاً على المثقف أو المبدع الذي غايته إيصال نتاجه إلى الآخر لما يحمل من صيغ محدثة في قاموسه اللغوي ، وفي موقفه من الحياة، ذلك أن الرغبة في اجتراح محركات بحث تساعد في إدامة الحوار الإنساني والذي من شأنه بعث روح الطمأنينة لمثقفنا ومبدعنا ويزرع في دواخله حب الحياة التي يريد .
بعد ما مضى عليه الكثير – بل حتى اللحظة – وهو يصارع كوابيسه على ليل الفوانيس الكابية، وجعله الحال المعاش يكفر بآليات المناهج النقدية الحديثة التي ولدت وترعرعت بين أروقة الدرس الأكاديمي العالمي المتجدد برؤاه الطاعن بأناقته الباذخة؟؟ والتي تجعل من الكاتب العراقي – تحديداً – ككيان يتحسس عمق البون الشاسع في الحياة وإرادة الخلق، وهو الذي بين يديه نصوص مغمسة بالدم، وكتابات تشبعت بلغة الموت والدخان.
وصار لازماً أن يكون (نوح) عصره، يشهد طوفانا آثر طوفان، ويطفأ حريقاً أثر حريق، تمتد يده الراعشة لتلملم حافات اليابسة كي يبقي عشبة خلوده المؤجلة، وأصابعه الوجلة تجمع ما تناثر من رقم حضارة هذه الأرض – أرض السواد – والتي لم تستطع مدامعه من إطفاء ألسنة اللهب القادة إليها.
إن حلم المثقف / المبدع هو ((إمكان يظل في حاجة إلى التحقق، وكون من الوعود التي تظل في حاجة إلى الإنجاز، ودعوة دائمة إلى الفعل الخلاق الفعل الذي ينتقل بهذا الوطن من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية ومن الظلام إلى الاستنارة ومن التخلف إلى التقدم)) استنادا إلى كلام الكاتب جابر عصفور.