من المستجدات المعرفية التي تزخر بالمعاني الكثيفة والدلالات (الثقافة) التي هي مركب شامل من التفاعل الاجتماعي وسلطة موجهة لسلوك المجتمع.. كونها تصنع في الوعي الجمعي شخصيتها التي تتشكل عبر حركة التاريخ.. والتي يحقق وجودها ويوثقه المثقف الكائن العضوي العالم بالكليات والمراقب كسلطة مشرعة.. إنها “البيئة التي تتحرك بها المسارات العامة وضروب التفكير والتنوع الاجتماعي بما تتضمن من عادات وتقاليد وأذواق وعواطف…”، كما جاء في المعجم الوسيط.. في حين ترى الموسوعة السوفيتية بأنها” كل القيم المادية.
الخبرة في ميدان الانتاج والروحيةـ المنجزة في مجال العلم والادب والفن والاخلاق والتربية ووسائل خلقها واستخدامها….”.أما السير ادوارد تايلور في كتابه (الثقافه البدائية) فيرى انها”ذلك الكل الديناميكي المعقد الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والاخلاق والقانون والعرف، وكل القدرات والعادات التي يكتسبها الانسان من حيث هو عضو في المجتمع..”؛لذا فهي المجموع المركب من الاداب والفنون والعلوم والمهارات التي يكتسبها الفرد ويحقق وجودها ويوثقها المثقف الكائن العضوي على حد تعبير غرامشي.. كونه عالم بالكليات التي تحقق وجودها بجوهرها والمراقب كسلطة مشرعة دوما.
فالثقافة إذن هي الخيط الذي يربط بين المنتج الفكري (المثقف) والمتلقي (المستهلك)..
أما الشاعر ت.س. إليوت فقد وضع شروطا ثلاثة بتحقيقها تتحقق الثقافة:
أولها/ البناء العضوي.. كونه يساعد على الانتقال الوراثي لها داخل ثقافة ومجتمع معينين.
وثانيهما/ القابلية للتحليل، إذ تشكلها من ثقافات محلية.
ثالثهما/ التوازن بين الوحدة والتنوع في الدين.
الثقافة إذن وسيلة للارتقاء الروحي والمعرفي لخلق الموازنة الحياتية وحافز لتطوير المجتمع.. والنخبة المثقفة هي التي تقود المجتمع الذي تنتمي اليه وتحقق رقيه وتطوره بمقدار مساهمتها الفاعلة من خلال احتكاكها بالطبقات والفئات الاجتماعية ونزولها الى أدنى المستويات المعرفية في المجتمع؛ لأنها وعي ومعرفة واختراق مجاهيل الواقع بتوظيف مخزونها الفكري الذي جاء نتيجة (حس بصري او سمعي).. اذ إن أهم مساعي المثقف لتطوير ذاته هو السعي لمعرفة نفسه.
هي تؤدي دوراً محورياً في بناء الشخصية الوطنية بتشكيل وعي يسهم في صياغة واعادة بناء التركيبة الاجتماعية للوجود الانساني.. وذلك عبر تنمية هذا الوعي ومن ثم تعميق الزمن الفكري من اجل الاستقرار وتدعيم الوحدة الوطنية..فهي تخلق وعيا بأهمية الوطن ومكانته..والمثقف هو الذي يستوعب ويدرك مفهوم المواطنة التي تستند الى العدل والمساواة وقبول التعددية.. لذا كان دوره تأسيسيا ومفصليا في الثورة ضد الافكار الفئوية والمناطقية والمذهبية..من اجل خلق مفهوم تعايشي تسامحي تحت مظلة الوطن الواحد بلا حواجز ولا قيود تعيق التواصل الاجتماعي بين مكوناته المجتمعية.
من هنا نقول: إن الحديث عن الوحدة الوطنية يعني خوض غمار محاور متعددة في مقدمتها المحور الداخلي فالاقليمي والانساني الكوني.. والداخلي بؤرة انطلاق المحاور كلها.
والثقافة تعد رافدا تنمويا لجميع المجالات الفكرية والعلمية بحيث تمثل قنواتها محاكاة لشرائح المجتمع وأنساقه… لتحقيق شموخ البناء الكلي له… إنها تعميم لا تشخيص..كونها مجموعة من القيم التي تنبثق منها أنماط من السلوك الذي يؤسس لعلاقات انسانية.. لذا فإن دور الثقاقة في تعزيز الوحدة الوطنية جوهري يبدأ من معرفتنا أن الثقافة” تصنع وتنمو في الوعي الجمعي..”، ومن هنا فإن المثقف المنتمي ينطلق بوعيه وحركته على صعيد الواقع منمنطلق الدفاع عن الشخصية الثقافية في وجه التحديات ورفض أزمنة التشطير للحفاظ على الهوية الوحدوية..من خلال تقديمه التصورات والرؤى التي تساعد على تسريع التحول الديمقراطي.. فضلا عن تعزيز الوعي من خلال تعميم ثقافة السلام ونبذ العنف والتأكيد على الوحدة الوطنية والمجتمع المدني الفاعل والايجابي في النهوض بمسؤولياته.. لذا فتعميم ثقافة الحريات والحقوق المدنية ضرورة ينبغي القيام بها من اجل انتصار ثقافة التسامح والاخوة، ومن ثم تعزيز الهوية الوطنية والديمقراطية على مبدأ الولاء للوطن.
ولا يفوتنا ما للمناهج التعليمية من أثر ثقافي ومعرفي كونها حلقة وصل بين التربية كفلسفة وأطر نظرية وفكرية تبنى على أسس قيمية واجتماعية ونفسية ومعرفية.. وبين التعليم الذي يتم من خلاله تحقيق الاهداف التربوية التي توجه الناشئة نحو السلوك المؤدي الى تكييف الفرد مع ذاته ومحيطه لتحقيق المواطنة الصالحة.
لذا ينبغي حرص القيادات التربوية على ان تجعل من المنهج مادة لغرس مبادئ الوحدة الوطنية وتجذير الولاء الوطني ورفض الانجرار صوب النزعات الطائفية والقبلية والمناطقية..وهذا لايتم إلا بتضافر الجهود المؤسساتية من اجل انجاز منهج يعزز الهوية الوطنية ويكرس للعلم الاجتماعي.. كون المناهج التعليمية تعد احدى الوسائل والادوات الرئيسة في غرس القيم الوطنية التي تربط الانسان بعالمه وتقوم بشحن ذهنيته وتفكيره بالمعارف التاريخية والاجتماعية والوطنية والانسانية.. لذا فهي المخصب الاساس للذهن والذاكرة ازاء تمسكها بقيم الوحدة الوطنية وهي المسؤول عن ترسيخها وتنميتها..فضلا عن انها تعمل على ترسيخ القيم ذات العلاقة بالمبدأ الوطني من خلال مقومات المعرفة الوجدانية التي توجه سلوكيات الافراد والجماعات الى ميادين العمل ومضامير الانجاز.