بدأ الأمر بخبر صغير جداً، خبر مقتضب، لكنه كان تماماً مثل كرة الثلج، إذ تحول بعد ساعات قليلة إلى كارثة كبيرة، كرة من لهب وموت أسود موبوء، كرة تعصف وتدوسُ وتهرسُ كل ما هو أمامها، الأخبار السامة والعواجل المرعبة المؤطرة داخل المستطيلات الحمراء كانت تترا وكأنها الطعنات التي تغرز في كبد الوطن، كنا ندور مابين الذهول والذهول، هل ما يجري حقيقة أم أنه مجرّد كابوس سنصحو منه بعد لحظات.لكن ذلك اليوم الطويل الترابي الكالح كان حقيقة دامغة، انهار الجيش واستولت طيور الظلام على مناطق واسعة من العراق، ثمّ كان الزلزال الأكبر، مجزرة سبايكر، تلك الصور التي لا يمكن أن تغادر الذاكرة أبداً، وجوه الشباب المملوءة بالخذلان والوجع، ركضهم المرعب نحو حتفهم، الدم المتجمّد على منصّة الموت، النهر الذي تغيّر لونه إلى الأحمر القاني، مجزرة ربما هو الأولى من نوعها في تاريخ العراق المعاصر، مجزرة موثقة بالصوت والصورة هي ليست خبراً يمكن أن تتناقله الكتب السميكة وتترك لخيالك تشكيل صورته، بل هي هكذا دماء ساخنة ترشّ (وتلطّخُ) وجهك كلما فتحت فديوات الجريمة التي انتشرت بسرعة البرق، ومثلها جريمة إبادة وسبي الإيزيديات، وغيرها كثير مما رافق ذلك الانهيار المريع.
في تلك اللحظات كان المثقف العراقي يتلقّى هول الصدمة الهائلة ويحاول أن يستوعب ما حدث ويحدث ليكون له الردّ المناسب بوصفه الخطّ الأول لوعي الشعب والمحافظ على توازن النسيج الاجتماعي من الخلل والعبث والتشتّت، كيف كان ردّه الأول، رده المعرفي والثقافي، وفي أيّ الفنون كان الظهور الحقيقي لتوثيق هذه المآسي التي مرّ عليها الآن ثماني سنوات، نستذكرها اليوم في محاور وأسئلة تحاول أن تجمع شتات هذه الوجع لتوثيق وتجميع لحظة هائلة مفصليَّة في الثقافة العراقيَّة.فهل استطاع المثقف العراقي (بصفته وشخصه) في تلك الأيام الحرجة المؤلمة أن يتماسك وأن يكون دليلاً تنويرياً يعتمد عليه نحو ضفاف الأمان، متمسكا بمشروعه المدني والثقافي؟.. لقد ظهرت بعد الأيام الأولى أوبريتات وأغانٍ تعبويّة حاولت بثّ روح الصمود والتفاؤل، وكانت تؤدى من قبل جموع الفنانين والشعراء وشرائح مختلفة وهي كانت الاستجابة الأسرع لهذا الحدث، كيف تقرأ دورها في تلك المرحلة؟.
الانفعاليَّة التلقائيَّة
يركز الناقد والباحث عبد الغفار العطوي في بداية حديثه عن الطروحات التي عرضها في كتابه الصادر عن دار نينوى للنشر – سوريا عام 2020 (الدراسات النسوية من وجهة نظر الرجل) الفصل الثاني: الرواية النسوية والإرهاب (العراق 2014)، ويقول إنّها “تناولت جانباً مهماً من هذا الحدث المروّع، الحدث الذي لم يستوعبه الناس، ليس في الموصل وسنجار، ولا في العراق ومنطقة الشرق الأوسط فقط، وإنّما في العالم بأسره، الحدث الذي أعاد إلى الأذهان صور الحروب البربريَّة التي كانت تقع في العصور القديمة والوسطى، لم يصدقه كلّ من سمِع الأخبار التي حملت فظائع القتل والسبي والدمار من خلال التلفزة والفضائيات، وكانت لحظات جمود وذهول وغيبوبة انتابت كلّ العراقيين، من القريبين من الحدث، من الأهالي والجيش والمؤسّسات الحكوميّة، ومن هم بعيدين عنه لكن تربطهم المشاعر المشتركة من الخطر الداهم الذي قد يطبق على الكل، ثم جاءت مجزرة سبايكر لتزيد الطين بلّة، ولما أفاق الجميع من صدمة الحدث، ظلت ردّة الفعل مرتبكة ومرتخية، ثم سارت الأمور كما عشناها في التصدي للكارثة بالمواجهة والحرب.
ويرى العطوي أن أوّل ردود الأفعال التي انطلقت من روح الهزيمة الممتزجة بالرفض عبر كتابات انفعاليّة وتلقائيّة في روبرتاجات صحفيّة واسكيجات مكتوبة بين الشعر والقصة، وبعد مرور مدّة من الصدمة نظرنا إلى المثقف العراقي كيف عبّر عن ذلك.
المثقف العراقي، بحسب العطوي، لم يكن تنويريّاً ذات يوم، لقد كان مقموعاً من نظام توتاليتاري، مستلباً، وإن كان أغلب المثقفين العراقيين ينتمون إلى اليسار الشيوعي، بيدَ أنّ الشيوعية جمدت المفهوم التنويري بوصفه من المفاهيم الليبرالية، لهذا عندما سقط نظام البعث عام 2003 سقطت ورقة التوت عن جميع المثقفين العراقيين إلّا القلائل من الذين نهجوا الفهم العلمي والمنهجي للتنوير منذ كانط (1727 – 1804)، لكن هذا لا يعني أن المثقف العراقي الإيديولوجي لم يحرك ساكناً إزاء محنة الموصل، وعلى تمزق الهويّة الثقافيّة له، ومتاهاته في دروب التجريب العشوائي الذي أقحمته به الفوضى الخلاقة، لم يقف في أن يلوّح بالرفض وقبول المحنة والاذلال، كانت حركاته الانفعاليّة التلقائيّة تؤكد أن الخلخلة في البنى الثقافيّة السابقة لن توقفه، إلّا أن قدراته محدودة ووعيه في تفكيك وتحليل أزمات البلاد، ومنها الأزمة الثقافيّة لم تسعفه في التعبير عن مشروع منهجي لاستيعاب الصدمة عام 2014.
ولكن ما الذي قدمه المثقف أثناء وبعد اجتياح داعش للموصل ومجزرة سبايكر؟، على وفق تصورات العطوي فإنّ المثقف العراقي كان دون المتوقع، لم يعِ الإشكاليَّة التي أحدثتها أحداث عام 2014، وبما أني كتبت عن الرواية النسويَّة، وبروز تداخلاتها في الظاهرة الثقافيّة التي تنجم عن وقوع كارثة وردّة الفعل عليها. أشيد بالرواية النسوية من منظور رجالي إذ صدرت روايات نسويَّة من وجهة نظر الرجل مثل سبايا دولة الخرافة للروائي عبد الرضا صالح محمد وبهار للروائي عامر حميو فضلاً عن الموصليَّة غادة صديق بروايتين عن الحدث وغيرهم.
الكتابة بأسماء مستعارة
«سأتحدّثُ كشاعر عاش التجربة وكان في مركز العاصفة المدمّرة شاهداً على احتلال المدينة وما تبعها من تداعيات كارثية»، بهذه العبارة يبدأ مسؤول إعلام اتحاد الأدباء والكتاب في نينوى الشاعر محمد جلال الصائغ حديثه، قائلاً: كان للمثقف في المدينة المحتلة رؤيا واضحة جداً وخلفية ثقافية ومعرفة عميقة بالتاريخ تجعله محصّناً ضد الهمجية التي اجتاحت البلاد، وكان يثقف في السرّ وبين الخاصة ضد تلك الأفكار الوحشيَّة، حتى أن منهم من كان يكتب بأسماء مستعارة. بالنسبة للصائغ فقد كتب ونشر باسمه الصريح، ويتابع أن «هذا ما أراه الآن حماقة كبرى، لأنّ أيّ فعل معارض مهما كان بسيطاً معناه القتل، لكن في ذلك الوقت كنت أراه كلمة حقّ يجب أن تقال من دون تأجيل».وعندما كانت عناصر «داعش» الإرهابي تحرق مكتبات الموصل، كالمكتبة المركزية ومكتبة جامعة الموصل والكثير من المكتبات الشخصية كان اتحاد الأدباء والكتاب في نينوى يرسل الكتب التي ينجزها إلى الأردن لطباعتها، بحسب الصائغ. وبعد أن تحرّرت المدينة، ظهرت للنور أعمال أدبية كثيرة كتبت أثناء الاحتلال الهمجي كمحاولات لمواجهة الأفكار الظلاميَّة، إذ توزعت هذه الأعمال بين الشعر والرواية والقصّة، وكما يعتقد الصائغ أنه وبحسب اطلاعه فإنَّ للرواية الحصّة الأكبر من هذه الكتب، لما فيها من إمكانيات تسليط الضوء على زوايا متعدّدة من الحكاية وسبر أغوار تلك الفترة المظلمة من تاريخ العراق.
تراجيديا الألم والخسارة
ويرى الروائي ابراهيم سبتي أنّ الكتابة عما حدث لمدينة الموصل، يشبه الكتابة عما حدث لحواضر المدن الكبيرة في الحروب العبثية عبر التاريخ. ويقول إنها “تراجيديا الألم والخسارة وفقدان الأمل”. ما أتذكره أنه بعد سنة تقريباً ظهرت روايات تحمل عنوانات عن تلك الكارثة ويمكن أن نحدّد بعضها، عن سبي الأيزيديات وعن مجزرة سبايكر، السؤال هل يمكن أن نكتب عن حدث كارثي بهذه السرعة ونستوعبه أم أن الأمر يحتاج إلى عملية هضم فكري وتأنٍ حتى تكون الأعمال بحجم المأساة وتبتعد عن التعجل والتسرع؟ يعتقد سبتي أن المثقف ينظر لما حدث بعين أخرى تماماً، فهو يقول ما يختلج في داخله من إبداع وأحاسيس معبّرة عن همومه ولغته التي تصارع الشر والموت.. وأن الرواية هي أفضل جنس أدبي يستطيع التعبير عن كل ما حدث بصورة أكثر اتساعاً. لأنّ الرواية كما هو معروف تستوعب الكثير من الأحداث، ومن ثمّ فهي الفضاء الأكثر اتساعاً للحكي والسرد.
ويضيف سبتي أنَّ «ما حدث للموصل يحتاج إلى أعمال أدبية مهمة لتوثيقها، ولتكون تاريخاً ناطقاً للأجيال. ويرى أن الرواية خير من يقول ذلك وأفضل وسيلة لقول كل شيء، لأنّ ما حدث ليس هيناً، إنه مأساة وانتكاسة كادت أن تفقد المدينة هيبتها وثقافتها وخصوصيتها». سبتي يشير إلى أنها مدينة تستحق أن توثق روائياً، لأنها أبت الاندثار والموت. وأن الرواية العراقية الآن تقول كل شيء وتحكي ما لم يقله أي جنس آخر. لذا كان الأجدر، بحسب تعبيره، أن تكون الرواية حاضرة في الخوض لما حصل لمدينة الموصل.. إنها مدينة حاضرة في ضمير كل كاتب عراقي وخاصة من يكتب الرواية. إذ ستظهر الرواية في أي وقت ولا يشترط أن تحدّد بزمن معين لأنّها عملية متواصلة وحاضرة بيننا دائماً.ولكن، عملية رأب الصدع التي نتجت عن تلك الكارثة كبيرة.. فهل أسهم الأديب شاعراً، قاصاً، روائياً في لملمة الجراح وتأشير مواطن الجراح ومحاولة علاجها؟
يرى الشاعر عادل الفتلاي أنَّ المثقف لم يأخذ دوره الفاعل في بداية الأزمة، وهذا أمرٌ طبيعيّ لأنَّ الحدث كان أكبر من أن يستوعبهُ أحد رغم وجود محاولات خجولة هنا وهناك، لكن بعد فتوى الجهاد الكفائي تحديدًا استعادت المؤسسة العسكرية ترتيب صفوفها حتى بُثّت في المثقفين الروح شعراء وكتّابًا، فأخذوا دورهم في شحذِ الهمم والتغنّي بالصبر والنصر والبطولات وتأبين الشهداء، مشكّلا دعما معنويا اجتماعيا وإن كان نسبيا بالنسبة إلى الجبهات. يشير الفتلاوي إلى أن الأغاني والأوبريتاتِ التعبويةِ كانت موجهة إلى المجتمع بتأثير نفسي إيجابي مقبول رغم قلتها أمام ما كان يقدّم في تلفزيون العراق في أيام الحرب العراقية الإيرانية كمّا ونوعًا، إذ وجه النظام المباد ميزانية هائلة للتوجيه السياسي والمعنويّ وذلك جليٌّ في حكايات كتّاب الأغنية والملحنينَ حتى أن الذي يطالع اليوتيوب وما يسمّى بـ (أغاني القادسية) يرى كيف عملت الآلة الإعلامية، مع الفارق بين الأمس المفروض بالحديد والنار، واليوم المدفوع دينياً ووطنياً، أمّا من ناحية التأثير فقد كانت إضافة مقبولة لكن ليست بالقدر المطلوب. يعتقد الفتلاوي أن الكتابات الأولى أهم من اللاحقة بسبب أن الكتابات الأولى تحمل حرارة المأساة وبتفاصيل أقرب للواقع إن لم تكن هي الواقع بعينه، والروائي حين يكتب عن تلك الفترة فإنه يعيشها بتفاصيلها وآلامها، بعكس الروائي الذي يكتب الرواية بعد انقضاء الأحداثِ مبنية على رؤية تأملية أو مقاربة تحليلية أو تداعٍ، ويرى أنه ربما نتفق على أن الرواية اللاحقة ستكون أكثر نضجاً من الناحية الفنية من الكتابات الأولى التي قد تحمل سردًا مباشراً أو تقريريًا كون الأحداث متسارعة وقريبة.
صدمة في نفوس المثقفين
أما رئيس اتحاد صلاح الدين الناقد د. غنام محمد خضر، فيقول لعل سقوط الموصل والمحافظات المجاورة وما تبعه من أحداث أليمة مرت بها المدن أسهم بشكلٍ كبير بإحداث صدمة في نفوس المثقفين والأدباء، الأمر الذي جعلهم يعيدون ترتيب أوراقهم وتغيير خطابهم نحو فتح أفق تنويرية تتناسب مع المرحلة الحرجة. ويضيف: لم يتوقف الأدباء عن نتاجهم الأدبي بل استمروا في ذلك لما بعد التحرير، إذ رافق التحرير نهضة ثقافية كبيرة تجسدت في نشاطات اتحاد الأدباء وملتقى الكتاب وغيرها من المؤسسات التي تعنى بالإبداع، ولعل أكثر الأجناس الأدبية التي تستوعب هذه النكسة هو الرواية لما تتميز بيها عن غيرها من الأجناس، فالرواية قطعة من الحياة وانعكاس لمجرياتها وقصصها.وهكذا.. في اللحظات الفاصلة والمحن الكبيرة تتعطّل أغلب العقول وتُذهل، وربما تتوقف عن الانتاج والتفكير لكن المثقف باقٍ على أرض راسخة، إذ يؤهله وعيه لعبور أيّ موقف مهما كان صعباً ومعقداً – كما يفترض- وقد كانت تجربة عام 2014 المريرة وما تلاها من أحداث جسام حلقة فاصلة في التاريخ العراقي المعاصر ستظل طويلاً بؤرة لإنتاج الكثير من السرديّات والمدوّنات التي تحاول أن تحلّل وتشرح وتوثق ما حصل برؤى جديدة ورهانات جديدة، والزمن وحده كفيل في فرز الكتابات التي ستكون أقرب للواقع والأكثر التصاقاً بالحدث، وطبعاً الأكثر دقّة فنيّة وسبكاً وخيالاً، كما ستؤشر هذه المحنة أهمية الثقافة وأهمية المثقف في أي مجتمع.