لا تهم الأكاذيب. إسرائيل تكذب منذ اليوم الأول لإعلانها الحرب ضد قطاع غزة. حكاية الرؤوس المقطوعة واغتصاب الأطفال، كافية تماما. ومن الطبيعي، على هذا الأساس، أن تتبرأ من جريمة قصف المستشفى المعمداني في غزة.القاعدة المعروفة هي أن من يكذب مرة، يكذب مليون مرة. وليس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو وحده الذي يكذب كلما فتح فمه. الغالبية العظمى من الإسرائيليين يتنفسون أكاذيب، وزفيرهم صواريخ.قصة الأكاذيب “تأسيسية” من الأصل. ولو حدث أن كانت الأرجنتين، كما كان مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل يرغب في البداية، هي “أرض الميعاد”، فإن كل الأكاذيب التي تم نسجها عن فلسطين كانت ستتعلق بها، ولكانت بوينس آيريس الآن هي مقر الكنيست.
يقول هرتزل في بعض يومياته “هنالك بعض الأمور التي ليست في صالح اختيار فلسطين مثل طقسها الذي لم نعد معتادين عليه، وضيق مجال التوسع فيها… إذا ذهبنا إلى أميركا الجنوبية سيكون هذا أفضل، لأنها أبعد عن مشاكل أوروبا العسكرية والسياسة”.أقنعه بعض التلموديين، فيما بعد، بأن الخطة أكثر قابلية للنجاة إذا امتزج المشروع الصهيوني القومي بالديني.صار الكذب جزءا من آليات “الدفاع عن النفس” الخبيثة. وهو “حق مشروع”، يصدقه الغرب، ولكن ليس لأنه لا يعرف الحقيقة، بل لأنه كان شريكا في صناعة الكذبة الأولى.
ولكن، لا تهم الأكاذيب. المهم ما تعنيه.
إسرائيل على أي حال، قبل المستشفى المعمداني، تقصف منازل وتجمعات سكنية، وتصدر التهديدات للمستشفيات بالقصف، وتقطع الماء والكهرباء وتمنع إمدادات الإغاثة الحيوية للمستشفيات. وهذه كلها جرائم حرب، تمت كتابة سطورها بدماء آلاف الأطفال والنساء في غزة.يكشف الأمر عن طبيعة إسرائيل. يكشف أيضا عن طبيعة الغالبية العظمى من الإسرائيليين الذين استمرأوا الكذبة الأولى والثانية والثالثة بعد الألف.إنهم جبناء أولا. يقتلون المدنيين، على سبيل الترويع. لأنهم يخشون مواجهة السيف بالسيف بين المقاتلين.
نكتة في هذا السياق: يسمون عمليتهم ضد غزة “السيوف الحديدية”. ولكن سيوفهم طائرة فحسب. لم تقابل سيفا آخر على الأرض حتى الآن. التسمية نفسها كذبة. ولكنها تقدم الإيحاء نفسه، وهو أن “السيوف الطائرة” تخشى مقابلة السيوف في مكانها المعقول.المدنيون هدف سهل. وهو هدف ثابت منذ أن أصبح ارتكاب المجازر في دير ياسين وكفر قاسم وغيرهما سبيلا لإخلاء الأرض.تاريخ إسرائيل هو تاريخ مجازر. ليس لدى إسرائيل تاريخ آخر. لم تتمكن بعد من صنع شيء يصنع معنى للوجود الإنساني أو الحضاري. تصنع دبابات ومدافع وصواريخ وقببا حديدية، لكي تواصل المجزرة تواريخها.
ضع كلمات “قائمة مجازر إسرائيل ضد الفلسطينيين” على محركات البحث على الإنترنت، وسوف تتعرف على هذا التاريخ. سوف تراه بوضوح، إذا كنت لا تريد أن تكتفي بأعمال القتل اليومية التي يتعرض لها الفلسطينيون، قبل اندلاع الحرب ضد غزة، وهي ما أصبح جزءا من قهوة الصباح على طاولة رؤساء الوزراء الإسرائيليين منذ اندلاع الانتفاضة الأولى في ديسمبر العام 1987 إلى اليوم.
جبناء فحسب. تسلحهم المتفوق جزء من هذا الجبن، لأنهم لا يستخدمونه ضد جيوش، بل ضد مدنيين. لا تذكر جنين. لا تذكر خان يونس، ولا تذكر الخليل. الطائرات هي التي تحلق فوق منازل المواطنين، لتقصف المنازل التي يُعتقد أنها تضم مقاومين، تقصف غير سائلة عن وجود أطفال، غير سائلة عما يتهدم في الجوار، من قبل أن يقتحم الجنود المدججون المواقع المقصودة. ونادرا ما تسفر عمليات الاقتحام عن قتلى أو حتى جرحى من الجنود الإسرائيليين. لا تسأل لماذا، لأنهم يخوضون معركة لا معركة فيها. القتل المسبق هو سلاحهم الأول، مما لا يُبقي مكانا لأي معركة.
الجندي الإسرائيلي يقتل على أساس الاشتباه أيضا. وما لم يجد سكينا في يد ضحيته، يضع سكينا من عنده. ليُثبت المدججُ بالخوذة والدرع المضاد وبالسلاح أنه “شجاع” في مواجهة سكين.إسرائيل كيان رعديد. هذه هي طبيعته الأولى. وهناك سبب لذلك. هو أنها شجرة صناعية لا جذور لها في الأرض، لا يمكنها أن تمد جذورا من الأساس. وتخشى أن تُقتلع في هبة ريح. وهذا هو ما يجعل قادة جيشها يضربون كل شيء من حولهم، خبط عشواء يقصد الترويع. يخافون، ويتخذون من إثارة الخوف سلاحا لهم. يعتبرون أن نجاتهم من هبات الريح قائمة على عدد من يمكنهم قتله من المدنيين، وعلى عدد ما يمكنهم هدمه من المنازل. أسلحتهم تؤدي هذا الغرض على اعتبار أنه “هدف إستراتيجي”، لعله يدفع رياح الخوف إلى الجانب الآخر.
وهم يروعون حتى حلفاءهم. يثيرون في نفوسهم الخوف من خسارة الدعم الذي تقدمه اللوبيات الموالية لإسرائيل.إسرائيل كيان مذعور. صار مدججا بأسلحة نووية. إلا أنه مذعور. يقول إنه يريد سلاما، ولكن السلام نفسه، لم يخفض مستويات الذعر. السبب، هو أنه كيان لم يتمكن من “التطبيع” مع نفسه. لم يتأصل. ويعرف أن الدبابات والطائرات، قد تصنع قاعدة عسكرية إلا أنها لا تصنع انتماء إلى أرض، ولا هوية لا يعتريها الزيف.
قصف مستشفى المعمداني في غزة، جريمة في سياق.إنه جزء من معركة تخوضها “السيوف الطائرة” ضد المدنيين، لكي لا تنزل إلى الأرض فتحارب سيفا بسيف.كتب الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أن يأتي إلى إسرائيل ليقدم “دعمه المطلق” لما ترتكبه من جرائم يقول “إن شجاعة وإقدام الشعب الإسرائيلي مذهلة حقا”.أين حصل ذلك؟ أين رأيت الشجاعة والإقدام؟ وبغير قتل الأبرياء، على ماذا أقدم هذا الشعب لكي يذهلك؟ولكن ذلك كله لن يغير شيئا على أرض الواقع. حتى ولو بلغت الجريمة مئة ألف شهيد. سيأتي غيرهم، وسيحملون السلاح من جديد ضد الاحتلال، لأنه احتلال. وإسرائيل التي تنتظر وتخشى هبة ريح، سوف تظل تنتظر وتخشى.ما ترتكبه من جرائم ضد الأبرياء، مفيد في الواقع، لكي تتعرف هي بنفسها على طبيعتها ككيان رعديد، مدجج بالسلاح، ولكنه رعديد. قائم على كذبة، وظل يكذب على نفسه قبل الآخرين.زرع الكذبة، ليرى أنها تثمر جثثا لأطفال ونساء، تتعلق على أغصان الوقت، وتنتظر الريح.