المستوى السيء الذي كانت عليه المعارضة العراقية قبل عام 2003 انصرف على عنوانها أيضاً، لدرجة حينما يُذكر عنوان المعارضة العراقية تحضر أمام القارئ أو السامع تلك السمعة السياسية والأخلاقية السيئة التي جلبها المعارضون، خصوصاً من دعاة الإسلام السياسي الشيعي، في سياساتهم وبرامجهم الطائفية وتخريبهم المُبَرمج للدولة العتيدة في العراق وشعبه الموحد.إذن هذه السطور تتحدث عن معارضة وطنية عراقية ضد النظام السياسي القائم، الذي التقط غالبية أصحابه جياع الخبز والجاه والسياسة من حارات المنافي وأزقتها ليتحوّلوا إلى حكام بأمر من المحتل ورعايته، وهذا أول دليل وصفة عمالة وضعت عوازل من نار بينهم وبين الشعب، لم تكن هناك وسيلة لتجاوزها سوى اعتذار هؤلاء وتنحّيهم عن مسؤولية حكم العراقيين في أول فرصة توفرت في انتخابات 2006.
لم تتوفر مثل هذه الفرصة التاريخية التي كان بالإمكان أن تُغني شعب العراق عمّا تلقاه من مصائب ومحن متواصلة خلال العشرين عاماً الماضية، من قبل هؤلاء الذين وجدوا في سلطة الحكم الطائفي وسيلة سهلة للظلم والاستبداد وأداة للسرقة والنهب وليس لخدمة الناس.كان من الطبيعي أن تتحول ردود الفعل الشعبية العراقية والاحتجاجات العامة المطالبة بالحقوق الأساسية في الحياة الحرة الكريمة بمختلف مفرداتها الأساسية إلى تيار معارض وطني واسع، تصاعدت أهدافه بعد رفض تلك الأحزاب وعنادها في الاستجابة لحقوق الشعب إلى هدف إزاحتها ونظامها القائم ببديل وطني يعيد كرامة العراقيين وسيادة بلدهم السياسية والاقتصادية.
قبل الدخول في تفصيلات واقع المعارضة العراقية اليوم، لا بد من الإشارة إلى أن الشعب العراقي الذي قاطع انتخابات العملية السياسية هو معارض للنظام القائم. دون الدخول بالتفصيلات النظرية والجزئيات التنظيمية للمعارضة العراقية اليوم، المهم أن هدف غالبية التشكيلات التي نشطت في الساحتين الداخلية العراقية والخارجية هو النضال من أجل تحقيق هدف التغيير السلمي للنظام القائم، الذي أصبح خصماً وعدواً لشعب العراق، ومن الواجبات الأساسية تغييره أولاً قبل الدخول في تفصيلات البديل الجديد.هذا الشرط الوطني يشكل الخط الفاصل ما بين عنوان المعارضة الجديّة الحقيقية وبين ما ظهر على المسرح السياسي، خاصة داخل العراق خلال السنوات القليلة الماضية من محاولات أحزاب الحكم وبنصائح خارجية. وتسعى لحمايتهم من السقوط صناعة مزيفة لمعارضات شكلية قد وقع غالبية قادتها وناشطوها (لا يشك في وطنيتهم) تحت خديعة الحكام الدكتاتوريين الجدد.
البعض الآخر بدأ شوطه الإعلامي في عاصمة أوروبية بشعار “مشروع وطني” عالي النبرة، وترك انطباعاً لدى جمهرة غير قليلة من العراقيين أن تغيير النظام سيتم غداً، خصوصاً وجود دولة خليجية غنية بالمال تدعمه، فجاء إلى بغداد بمظهرية “السنّي” الثائر الجديد، لكنه تحوّل إلى ناصح جديد لقادة الأحزاب المتورطة بالقتل والفساد لينتهي إلى واحد من التابعين رغم لغته “الوطنية” عالية النبرة.استغنى المعارضون الوطنيون الحقيقيون في الداخل عن الشعارات البراقة بالمواقف العملية في المجابهة السلمية لأجهزة النظام. أثبت ثوار أكتوبر (تشرين الأول) 2019 مثالاً عملياً على شجاعة وقدرة عالية في الصمود ومواجهة دموية النظام وميليشياته، قدموا دون تردد أكثر من 700 شهيد خلال أسابيع قليلة. لهذا أصبحت هذه الثورة العملاقة أروع مثال على المعارضة الحقيقية.
عبّروا كذلك عن الرؤيا الحقيقية في تعزيز الهوية الوطنية كبديل عن الطائفية ومحاصصتها اللئيمة التي خربت ومزقت المجتمع العراقي طوائف وأشياعا متناحرة.أما “المعارضون” الآخرون، في الداخل، فينشطون عبر الواجهات السياسية المسموح بغالبها من قبل أجهزة النظام التي تدعم بشكل غير مباشر بعضها لكي تشيع خدعة النظام الديمقراطي الذي يسمح بوجود معارضة إلى جانب أحزاب الحكم. غالبية هؤلاء المعارضين يعتقدون بإمكانيات التغيير من داخل العملية السياسية، وهم في واقع الحال يدعمون بقاء استبداد الأحزاب خصوصاً في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت مساندة الفساد ونهب جميع موارد العراق جريمة جنائية تضع المشاركين والمساندين لها على مسطرة واحدة من القصاص الشعبي العادل.
هذه الأمثلة لا تقود إلى اتهام جميع معارضي الداخل المترددين في رفع شعارات إسقاط النظام القائم بشعاراتهم الإعلامية وبرامجهم السياسية، لأن ذلك سيعرّضهم للمطاردة أو القتل من قبل ميليشيات النظام. ما كان سبباً في انعدام وجود معارضة لنظام صدام حسين في الداخل هو ذاته السبب في انعدام وجود معارضة حقيقية ضد النظام البوليسي الدموي الحالي داخل العراق.السبب الأمني هو المبرر الموضوعي لقيام معارضة وطنية عراقية خارج العراق، مؤقتا، إلى حين قيام نظام ديمقراطي مدني، إضافة إلى وجود الملايين من العراقيين في الخارج موزعين على قارات الكرة الأرضية. الشرط الوطني المهم لمعارضة الخارج أن يكون لها وجود وتواصل بالداخل العراقي، دون ذلك لا يتعدى دورها الوظيفة الإعلامية الداعمة لحراك الداخل.
قبل الحديث عن جسم المعارضة العراقية نشير إلى أنه جرت محاولات رسمية عربية لم تنجح في التأثير على اتجاهات المعارضة العراقية، بل كانت تنفيذاً لأجندات سياسية دولية تكتيكية مؤقتة، مثالها عام 2014 حين دعا الأردن إلى قيام مؤتمر عمّان، وطلب حضور قيادات المعارضة من أجل صناعة مرجعية واحدة وطرح مشروع الإقليم السني. لكن الولايات المتحدة وبريطانيا أرادتا من وراء ذلك المؤتمر تهديد إيران: إذا لم يخرج نوري المالكي من السلطة فإنهم سيأتون بقيادة المعارضة في مؤتمر عمّان إلى السلطة في بغداد.عام 2015 فشلت الدوحة في عقد مؤتمر للمعارضة على أراضيها.عام 2017 تبنت خمس دول عربية رسمياً هي السعودية وتركيا والأردن والإمارات وقطر صناعة مرجعية سياسية، عملياً رشحت كل دولة 5 أعضاء من العراقيين، لكن مؤتمر أنقرة فشل في تحقيق أهدافه.
خارطة عناوين تنظيمات المعارضة العراقية في الخارج واسعة متعددة الألوان والبرامج، ذات أهداف متشابهة في الدعوة إلى التغيير السياسي في البلد .الملاحظة المهمة الأولى في منطلقات تلك التشكيلات أن غالبيتها عناوين لمعارضة لكنها تفتقد إلى تنظيمات حقيقية. فغياب التنظيمات والعناوين الإسلامية عن معارضة اليوم علامة إيجابية تحافظ على النقاء الوطني وتبعد الشبهات، ذلك أن غالبية الإسلاميين (شيعة وسنة) هم مشاركون أو داعمون لنظام الحكم القائم في بغداد، وشركاء في الفساد. قد يوجد واحد من التنظيمات يقوده ناشط لديه خلفية إسلامية هو المجلس الوطني للمعارضة العراقية برئاسة البرلماني المستقيل عبدالناصر الجنابي الذي تأسس بشكل فعلي عام 2016.
الميزة الرئيسة الإيجابية الغالبة المهمة لمعارضة اليوم هي غياب الدعم الأميركي والأوروبي الذي حظيت به معارضة نظام صدام قبل 2003 رغم أن قادتها وناشطيها متواجدون على أراضي تلك الدول، وغالبيتهم أو جميعهم متجنسون بجنسيات البلدان المقيمين فيها. هذا لا ينفي بالمطلق عدم وجود خيوط اتصال بين أجهزة مخابرات تلك البلدان وبعض قادة تنظيمات المعارضة الحالية أو مسؤوليها. هل يعقل قيام مؤتمرات كبيرة على أراضيها دون علاقات مباشرة مع أجهزة مخابرات تلك الدول؟شهدت الولايات المتحدة في وقت مبكر بعد عام 2003 فعاليات ومؤتمرات للمعارضة العراقية الحالية، قبل لندن التي تراجعت اليوم عن تلك الفعالية حيث كانت قبل 2003 مركزاً مطلوباً ومرغوباً من واشنطن ذاتها لاعتبارات كثيرة منها القرب الجغرافي من العراق وسهولة الاتصال بالداخل العراقي.
فعاليات عراقية كثيرة حدثت في الولايات المتحدة غالبيتها حملت عناوين ومضامين وطنية تدعو للتغيير السلمي داخل العراق، لكن للأسف تراجعت في السنوات الأخيرة لأسباب تتعلق بالرؤى والمنطلقات التفصيلية المتعلقة بالجانب الذاتي السلبي في أزمة القيادة الذي تتميز به التنظيمات العراقية، وتحولت فيما بعد إلى عناوين لمنظمات علاقات عامة بين العراقيين الأميركيين والمؤسسات الديمقراطية الأميركية. لهذا لن يكون مفرحاً لشعب العراق استضافة هذا المؤتمر أو ذاك لعضو كونغرس أميركي متعاطف مع القضية العراقية.في أوروبا، أرادت باريس وراثة الوصاية على المعارضة العراقية اليوم من لندن، لكنها وصاية لم تتحول لأسباب كثيرة إلى برنامج فعلي داعم للعراقيين، بسبب دعم باريس كما غيرها من العواصم الأوربية للنظام القائم في العراق، وهي العقدة الحقيقية التي تقف في طريق المعارضة الوطنية.
عام 2016 عقد مؤتمر المشروع الوطني العراقي بقيادة جمال الضاري وهو شخص غير معروف في السياسة إلا بدرجة قربه من عائلة الراحل حارث الضاري. من يقرأ البيان الختامي رغم حضور العديد من ذوي الاتجاهات السياسية المختلفة، يجد أنّ الدعوة إلى تغيير النظام السياسي القائم قد غابت من مفرداته، ويؤكد ذلك عودة صاحب المؤتمر المموّل من قطر إلى بغداد حاملاً دعواته للمصالحة مع النظام القائم.عام 2022 أعلن أحمد الأبيض بعد انتقاله إلى بلد لجوئه (أميركا) عن قيام جبهة معارضة تحت اسم “الجبهة العراقية الوطنية للمعارضة” أحيطت بإعلام واسع من قبله شخصياً كممارس في التحليل السياسي.ما يهم شعب العراق ليست ضخامة العبارات الوطنية وكثرة اللقاءات التلفزيونية، فهي على أهميتها في توصيل رسالة رفض هذا النظام لكنها لا تشكل خطراً على الحكام الذين أصبحوا غير مبالين بالتورط بالفضائح، المهم هو مدى قدرة أصحاب عشرات عناوين المعارضة من توحيد جهودهم والاتفاق المرحلي وفق مشروع وطني واحد على هدف مشترك هو إزاحة النظام القائم.