مالا يختلف عليه اثنان ويقرّانه تمام الإقرار، أن معطيات المجلسين التشريعي والتنفيذي في عراقنا الجديد، ليسا بالمستوى المكافئ لمتطلبات بلد جثم على أنفاسه نظام دكتاتوري أكثر من عقود ثلاث، وكذلك كفاءة أعضائهما، إذ هي تبعد عن أداء مامنوط بهم من واجبات بعد الثريا عن “الشيب والهرم” وتقترب أشد القرب من “العيب والنقصان” كما قال متنبي القرن العاشر، وهم كما وصفهم متنبي القرن العشرين الجواهري:
لولاك يا ابن الخيس
ماحل الخراب بأرضنا
وعدم الكفاءة هذا ليس وليد اليوم، كما أنه ليس نتاج رئيس الحكومة الحالي او السابق او نظرائهما في البرلمان، او الذين سبقوهما كشخصيات ونفسيات، بل هو شاخص في أس النظام المعمول به، كما أن الخلل يكمن في المنهج الذي اعتمد في تشكيل الحكومات بعد زوال الحكم السلطوي الفردي، إذ آل الأمر الى الأحزاب والكتل، وبفضلهما حل الخراب بأرضنا “وكان شرها مستطيرا”..! فقد بدا كل حزب وكتلة بما لديه فرحا مسرورا بالصيد الوافر الذي كان حلم رئيسه وأعضائه، وكلنا يذكر مفردة “الكعكة” التي راج سوقها إبان السنوات التي شهدت تشكيل الحكومات، وكذلك مفردة المحاصصة التي نعق ناعقها في كل محفل وجحفل مطالبا بحصته من الكعكة، ومايؤسف له حقيقة، أن الجميع صار يقضم من الكعكة (بلا وجع گلب) دون الرجوع الى الحق والحقوق، والعيب والمقبول، والجائز وغير الجائز، والممنوع والمسموح، فضلا عن الحلال والحرام، فانتهى الحال -بطبيعته- الى ماهو عليه اليوم، ولايبدو مقبل الأيام بأحسن من حاضرها وماضيها، مادامت النيات ماتزال سيئة، والأحزاب تسرح سرحا، والكتل تمرح مرحا في الساحة السياسية، بنفوذ وقوة وتسلط لم يثلم منها تظاهر ولااعتصام ولااجتثاث ولافتوى ولاهم يرعوون.
ولاأظن أحدا من الثمانية وثلاثين مليون فرد عراقي ينجو إذا أصاب العطب ركنا من أركان عراقهم، ولاأظن أيا من الأسوياء منهم يسعى الى خراب بلده او تردي أحواله، او يرضى بتقهقره وركونه في مكان قصي عن باقي بلدان العالم، وانحسار مشاركاته مع أبناء جنسه واندماجه معهم، حيث الجميع يجري في ماراثون التقدم العلمي والتكنولوجي، وهو قطعا -العراق- ليس عاجزا عن الخوض في هذا المضمار، بل هو سباق في تسجيل الدرجات العليا فيه، ونيل المراكز المتقدمة في مجالاته، والأدلة على هذا كثيرة لها في التأريخ صفحات بارزة، كُتبت على أرض وادي الرافدين منذ نشوئه حتى يومنا هذا. فباستطلاع الى منجزات عالمية أشير اليها بالبنان في ميادين العلوم والطب والصناعة، يبرز اسم العراق في قائمة الدول الأولى التي سجلت قصب السبق وبراءة الاختراع في طرح فكرة هنا، او ابتكار جهاز هناك، او إجراء عملية جراحية فريدة من نوعها، او اكتشاف جديد لعلاج مرض مستعصٍ، وفي كل الأحوال فإن فائدة الفرد العراقي تعود على العراقيين أجمع. وكان أهلونا يرددون على مسامعنا المثل القائل: (الحايط لو مال يوگع على أهله) مرارا وتكرارا، وقطعا ماكانوا يبتغون من تكراره إلا حثنا على درء المخاطر التي تحيق بنا، فترعرعنا على مبدأ إبعاد المخاطر البعيدة والقريبة منا على حد سواء، وليس على مبدأ ابو فراس الحمداني: “إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر”.
اليوم، وفي ظل حكومات لاتجيد القيادة المثالية ولا نصف المثالية ولا عشرها، يمر عراقنا بظرف عصيب خطير له تداعيات ونتائج وخيمة، إذا لم نأخذ جميعنا بعين الاعتبار المثل أعلاه، ونطبقه في حياتنا الخاصة مع كل من يجايلوننا ويعايشوننا، في البيت.. في الشارع.. في أماكن عملنا، وكذلك علينا العمل بجهد واحد يفضي بنا الى النجاح والفلاح في حياتنا. وكما معتاد.. “تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن” إذ هناك من ينتهج منهج السير عكس التيار، ويحتكم لخيارات نفسه التي تنحى منحى الشر، وتسعى في طريق الخراب من دون النظر الى عائدية الخراب عليه او على أهله. ومن هؤلاء اليوم نجد كثيرين يتصيدون في عكر المياه، دون أن يأبهوا لمستقبل البلاد، وليتهم علموا أنه مستقبلهم أيضا، إلا أنهم ينأون عن الإيثار ويتمسكون بالإثرة، رافعين شعار: “إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر”، ومازال هذا دأبهم وديدنهم ومنهجهم ومابدلوا تبديلا.