كثُر الحديث والكتابات عن علاقة النص بالواقع ولم تستقر على حال ، ذلك لأن الرؤى توسعت ، والمعارف ومصادرها المتعددة اسهمت في وضع المفاهيم قيد الدرس والاجتهاد . والقراءة واحدة من الفعاليات التي خضعت للتجديد والمكاشفة .تأزم الواقع ، وحصلت عليه متغيرات ، والنص يُلاحق مستجدات هذا الواقع ، بشتى الطُرق والأساليب . اجتهد البعض ، واتخذت نظراتهم له تنحى إلى الجديد في الصياغة ، وهذا ليس بمعزل عن نظرة من سبقهم ، بل اختلفت في الكيفية التي يتوجب النظر خلالها لمفردات الواقع ، ودراسة جدلية تحولاته .هذا لا يعني فرض قوانين خاصة وصارمة ، بقدر ما الانتباه إلى المتغيّر، وتعميق النظر في الأشياء والظواهر. وهي سمة جدلية اسهمت في تشريع المناهج والتوجهات الرصينة . فالجيل السابق للسرد مثلاً تعاملوا مع الواقع من باب مهمات ووظائف اجتماعية وفكرية وسياسية ، لذا كانت نظرتهم أكثر ثباتاً في سجل التاريخ، والذاكرة الجمعية تحتفظ بتفاصيل ما كتبوا . إن النص مهما كان جنسه ،هو الصورة الفنية للواقع ، وليس صورته الحرفية التي تقترب من التسجيل . هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليس النص الذي يتعامل مع الواقع ، يتخذ له غلافاً ولباساً لغوياً يُضيّع معالمه ، ويحمّله أكثر مما يحتمل . إن ورم اللغة دال على نقص في فهم الواقع والتاريخ وفرصة للاختباء لتسديد عناصر النقص .لذا وجد الدارسون إن التعامل مع الواقع ، يعني دراسته دون انفعال أو افتعال،ودون التعالي عليه وعلى نماذجه المتباينة الانتماء الفئوي والطبقي والفكري . لا أحد يسخر من الآخر،طالما لا يكون ثمة سجال بين الأطراف ، فالاستقلالية في النهج والكيفية تُحسم وجود مثل هذا الفارق، إذ ليس ثمة حرب قائمة في النص ، إن حيادية النص بكل مكوناته هي السبيل الأمثل لنجاحه . من هذا المقياس، نرى في بعض النصوص المقروءة ، أنها تتعامل مع مفردة الواقع دون الانتقاء ، أو البحث في ما هو مؤثر وفاتح للباب الذي يُخفي ، أي يستتر على أشياء تاركاً علامات تُفيد الاجتهاد والتأويل . المفردات متوفرة لكل إنسان ، ويراها الجميع، لكنها لا تتوفر لكل واحد .فالنص حمّال أوجه ومواربة غير خادعة . المتلقي حين يقرأ النص ، يدرك أنه كان قد رأى هذا ، لكنه غفل عنه . فقط حساسية الكاتب من يستخرج الدرر واللآلئ من الواقع ويسحبها إلى حاضنة النص . فالقارئ يبحث عن تماسك وليس مجموعة من التشظي الذي لا يُفيد وحدة القارئ ورؤاه ، فالتشظي في النص يدفع إلى تشتت منطق القراءة ، لأن النص بنيان يتوجب الاعتناء بتشييده . فهو يعمل على امتحان ذهن القراءة دون شعور صاحبها . التلقي نمط من الانتاج ، لذا ألفت فيه الكتب مثل( فن القراءة / غواية القراءة / النوم بجوار الكتب ..الخ). وهذا ما ينسحب على التاريخ في النص ، فنظرتنا للنص على أنه مدونة تاريخية ، وهذا ما يوقعنا في الخطأ الفادح ، أو أنه ــ أي النص ــ حاوية لكل ما يرد في الذهن ، وما تُمليه ذاكرة الكاتب . التاريخ في ذاكرة المنتج ، تفصيل يتوجب انتقاء درجاته ، أو قراباته من النص ، عبر البحث عن الملائموالمناسب قصد القبول لا الرفض .في هذا نسأل أنفسنا : ماذا تركنا للمؤرخ بفعلنا هذا ؟ إن التاريخ في النص ، هو تاريخ يتماهى مع وظيفة النص ، فيه من الشفرات التاريخية ، ما يؤهله على أن يكون نصاً استفاد من التاريخ ، ولم ينقله . بمعنى وازن بين تاريخيته وتاريخية الواقع ، لأن النص يدوّن تاريخ مضاف . مهما تكون تفاصيله، فهو إضافة نوعية للمدوّنة الكبرى ، لذا يتوجب علينا الحذر . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يرد في الذهن أن التاريخ كمدونه خضعت إلى أمر الحاكم ، وها نحن ندوّن تاريخنا بأقلامنا . هذه المعادلة نراها تصعب عند بعض الكتاب ،فيقعون في المحذور الذي يذهب بالنص إلى مصاف الأرخنة ، بقياس وظيفة المؤرخ ، وليس الأرخنة بقياس وظيفة كاتب النص . النص ابداع آخر للواقع والتاريخ . معظم نصوص( محمود أحمد السيّد ، عبد الملك نوري / ياسين حسين ، فؤاد التكرلي ، ناطق خلوصي ، أحمد، خلف) وغيرهم قدموا لنا شفرات التاريخ ، بعيداً عن مداولة مفرداته . بمعنى ذكّرونا بالتاريخ من خلال عيّنات ساعدت على أن يعود لذاكرة المتلقي ما هو حراك الحقبة المكتوب عنها ، فيستقر عنده الحال على مفهوم جدلية الوجود ضمن تاريخ معيّن . والكتابة عن الواقع والتاريخ يُفضي إلى عكس المواقف ، رغم حيادية النص ،لكنه يشكّل موقفاً مستتراً، أي غير معلن بشكل مباشر . فالنص لا يمكن اعتباره مجموعة لوحات تُعلق عليها الأيديولوجيات ، بل هو حاضنة للنادر والمدهش . لذا نرى في رواية( النخلة والجيران) تاريخ مدوّن بقلم مبدع . ذلك لأننا لانتلمس إلا القدرة على الانتقاء والربط والكشف عن تفاصيل حقبة غير معلنة في النص . غير أن دليلنا ينبع من مشاركتنا في صياغة تفاصيله . فالقارئ يعمل على الربط وتقريب المشاهد ، وتفسير العلامات باتجاه كشف ظواهر ذات سمات أسرية واجتماعية وسياسية واقتصادية ، بينما المؤلف وضعنا ضمن دائرة نصه الإبداعي . وهذا الرأي يشمل معظم كتابات الرواد ، سواء في حقل ثقافتنا العراقية أو الثقافة العربية والعالمية .