شغلت قضية العلاقة الإشكاليّة بين النقد الجمالي والنقد الثقافي مساحة واسعة من الدرس النقدي الحديث بأشكاله المتعددة والمختلفة، وربما تحوّل كلّ منهما إلى ما يشبه التيّار النقدي الذي يرتبط بأسس وقيم ومرجعية نظرية وفكرية معينة، ولا سيما النقد الثقافي الذي اقترح شبكة من الإجراءات النقدية الجديدة التي افترض أنها يجب أن تقوم على أنقاض النقد الجمالي، من خلال دعوة صريحة تقول بموت النقد الأدبي لأنه أصبح عاجزا عن الإيفاء بمتطلبات الوعي النقدي الحديث، وصار من الضروري بحسب رأي دعاة النقد الثقافي الانتهاء من النقد الأدبي والانفتاح على هذا النقد الجديد الذي يستجيب للرؤية الجديدة في المشار النقدي.عرض المسألة على هذا النحو المثير الناقد عبد الله الغذامي في كتابه (النقد الثقافي) وفي كتب أخرى لاحقة كثيرة له، حيث يقول في دعوته هذه: (لقد أدّى النقد الأدبي دوراً مهماً في الوقوف على (جماليات) النصوص، وفي تدريبنا على تذوّق الجمالي وتقبّل الجميل النصوصي، مع هذا وعلى الرغم من هذا أو بسببه أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب المختبئة من تحت عباءة الجمالي، وظلّت العيوب نموذجا سلوكيا يتحكّم فينا ذهنيا وعمليا، وحتى صارت نماذجنا الراقية – بلاغيا- هي مصادر الخلل النسقي)، ثم يواصل العرض بقوله: (وبما أن النقد الأدبي غير مؤهّل لكشف هذا الخلل الثقافي فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبي، وإحلال النقد الثقافي مكانه)، ويسترسل في إيضاح فكرته وبسط مقصديته من الجانب العملي الميداني بقوله: (ليس القصد هو إلغاء المنجز النقدي الأدبي، وإنما الهدف هو تحويل الأداة النقدية من أداة في قراءة الجمالي الخالص وتبريره (وتسويقه) بغض النظر عن عيوبه النسقية، إلى أداة في نقد الخطاب وكشف أنساقه، وهذا يقتضي إجراء تحويل في المنظومة المصطلحية)، وهو يسخّر كثيرا من الأفكار التي تخدم رؤيته في هذا المجال وتهيئ لمشروع نقدي جديد مغاير تماما لمفهوم النقد الأدبي. ولا شك في أن هذه القضية أثارت كثيرا من النقاش والسجال بين المتخصصين في الشأن الثقافي والفكري النقدي وعلى أنحاء مختلفة، وخضعت للكثير من النظر النقدي المعمّق على المستويات النقدية كافة. وعلى الرغم من أن ما طرحه الغذّامي يتوفر- في منظوره العام- على قدر كبير من الأهمية؛ بما يتكشّف عنه من عمق وبعد نظر ورؤية حضارية في خلق تصوّر جديد حرّ ومحطّم للتابوهات الثقافية، تلك التي هيمنت على أفكارنا وتسلّطت على رؤيتنا زمناً طويلاً، إلا أن العنف النظري الذي حفلت به طروحاته عكست حماسة زائدة تتجاوز حدود الرؤية الثقافية الطبيعية القائمة على الحوار والسجال والنقاش الحرّ، وتجور بذلك على سلامة المفاهيم وعلى صلاحية التاريخ الحافل للنقد الأدبي بكل تياراته ومدارسه وانجازاته، ولا يترك مجالا رحبا لقبول الآخر والتفاهم معه معرفياً. إن النقد الثقافي بالمستويات التي قدّمها الغذامي مهمة وضرورية جداً ضمن رؤيتها التي سخّر لها جهداً نظرياً في أكثر من مسار، ولا سيما فيما يتعلق بمعاينة النقد الأدبي ومستقبله إذ يمكن – بحسب رأيه- أن تسهم إسهاماً فاعلاً في ضبط إيقاع النقد الأدبي ومنعه من السقوط في الرجعية والتخلّف، وحثّه على المضي قُدُما في مشروعه الحضاري الجمالي لتعزيز الذوق الأدبي ودعمه، في سبيل حيوي أوسع وأعمق يخصّب آليات الفهم والتحليل والتفسير والتأويل. إلا أن الدعوة إلى الإلغاء في سياق آخر من سياقات هذه الدعوة إنما تنطوي ضرورةً على رؤية دكتاتورية لمحو الآخر، وهو ما يهدّم منطلقا مركزياً وجوهرياً انطلق منه الغذامي أساساً لدعم فكرته، إذ لا بأس من تجاور الأفكار وتصالحها واجتهادها وحتى تنافسها وتضادّها، والبقاء للأصلح كما يقال دائماً، إذ إن تاريخ النقد الأدبي لا يمكن شطبه بهذه السهولة لإحلال النقد الثقافي محلّه بلا قيد أو شرط، عبر فكرة وحيدة اخترقت الوسط وطلبت أن تتسيّده بلا منازع في دائرة لا تتعدى مجالاً ضيّقاً ومحدوداً جداً. والآن وبعد ما يقرب من سنوات عديدة مرّت على دعوة الغذامي لإحلال النقد الثقافي محل النقد الأدبي، لا يوجد ما يشير إلى أنها حققت النتائج التي كان يطمح إليها على الرغم من تعميق صورة النقد الثقافي عن طريق مزيد من التنظير له في كتب لاحقة كثيرة، فضلا عمّا تُرجم للنقد الثقافي من الثقافة النقدية الغربية، التي لم نجد في طروحاتها إجمالاً ما يشير إلى أنه بديل نهائي للنقد الأدبي كما طرح الغذامي ذلك. ونحسب- قدر تعلّق الأمر بآليات العمل النقدي وإجراءاته في فضاء النقد الأدبي العام- أن الرؤية التي يرتكز عليها النقد الثقافي مهمة جداً، ولا يمكن التغاضي عن خطورتها وأهميتها وجدواها في المجال النقدي وكيفياته الثقافية والحضارية، ويمكن تفعيلها بجانب النقد الأدبي الذي يشتغل على الجماليات التي لا غنى للذوق الإنساني الحضاري عنه، على النحو الذي يمكن أن يقوم النقد الثقافي بتوجيه النقد الأدبي من أجل تفادي السقوط في العيوب النسقية والتشعرن؛ على النحو الذي يقود إلى إنتاج قيم سلبية تخلخل بينة الشخصية العربية؛ واِنقاذه من هذه العيوب وتكييف أدواته للعمل بعيدا عن حضور النسق المضمر الذي يشتغل بآلية مضادة للنسق الظاهر في بعده النقدي الجمالي.