في ستينيات القرن الماضي بدأت الخطوات الأولى والمهمة للفن العراقي، إذ شهد تطوراً سريعاً ونقلات نوعيَّة كبيرة وبشكل يدعو للإثارة والدهشة، فحينما تتم إعادة قراءة تاريخه منذ تلك المرحلة أو ما سبقها من بدايات لقلة من الفنانين الذين استهوتهم الطبيعة وحياة الريف أو انجذبوا لمدينة معينة، سنجد بعض الأسماء التي أشّر منجزها حضوراً فاعلاً، وهذا الأمر عائد لعمل فني حقيقي تطوّر ونما بيننا كأنّه الحقول المتنوعة التي أخذت عمقها وأصالتها من معرفة جاورتها ومدّتها بثقل ثقافي بثّ فيها الحياة والديمومة، ومن بين تلك الحقول التي أثارتنا بشكل ملفت كان (فن الخزف والنحت) فكل من يتابع الفن العراقي وتاريخه دارساً أو باحثاً أو متطلعاً على تطور تلك الحركة الفنيّة وما صاحبها من وجود جماعات فنيّة لها خطابها الخاص والمستقل أو يتأمّل أسباب نشأتها سيصل إلى قناعة أن بداية الستينيات كانت النواة الأولى لوجود ما يعزّزها من خطاب جمالي وتعبيري لهذا الفن، وقد وجدنا من الضروري هنا أن نشير إلى فن الخزف ومن أبدع فيه وقدّم لنا تصوراً جماليّاً في منجزه من خلال معارض فنيّة بدأت منذ ذلك التاريخ، وخير من نستدلّ عليه في هذه القراءة هو الفنان شنيار عبد الله الذي نشأ في محافظة ديالى، ومن هناك ابتدأت أولى الخطوات الفنية له، ففي عام 1963، درس فن السيراميك أكاديميّاً. وكان الفنان اليوناني فلانتينوس كرمنليس الذي أسّس قسم الخزف في أكاديمية الفنون الجميلة من الأسماء التي أثرت في شخصيته وتوجهاته الفنيّة.
أولى معارضه الشخصية كانت في العام 1968 ثم تعدّدت تلك المعارض بعد أن لاقت نجاحا وقبولا كبيرين بين متذوقي فن السيراميك، وفي العام 1978 حصل على شهادة الماجستير في الفنون من جامعة ميشيغان بالولايات المتحدة الأميركية.. وبعدها أنجز عدة معارض شخصيّة لفتت إليه الانتباه من خلال قدرته التعبيريّة في السيراميك.
وقد تعدّدت معارضه في أكثر من بلد مثل أميركا، وفرنسا والمغرب وسوريا والأردن، وجميعها تحركت باتجاه أسلوب ومميزات خالصة ميزت هذا الفنان عن أقرانه بعد أن قدم للفن سخاء كبيراً تمثل في منجز خزفي يليق بهويته العراقيَّة.
أكثر ما يشدّنا في عمله بحقل السيراميك تلك الروح المتطلعة الى التجديد في نمط الأشكال المتعلقة في هذا الفن، فهو لم يقتصر على طابع تقليدي يقارب في شكله ومحتواه من فنون الشرق القديمة بل عمد إلى استعمال طرق جديدة وغير مبتكرة في طرح الأشكال، وغايته من ذلك البحث عن الجديد الحافل بالجماليَّة ليستعمل نوعاً من الهندسة الشكليَّة في عمله أقرب ما تكون للفن التجريدي الذي يتعامل مع البناء الهندسي وفقا لتغليب الشكل على المضمون، وهذا النوع من التجريب وفرّ له دراسة الأبعاد والكتلة والفضاء ليجعل الإنسجام والتناغم مميّزاً لأسلوبه وتقنيته وكانت غايته التشبّث بمفهوم خالص وهو مخاطبة الذائقة التي تنتصر لشكل الفن الحقيقي بعيدا عن التقليديّة وإعادة إنتاجها وتكرار أساليبها، لقد مثل شنيار عبد الله مدرسة تزعزع الفن التقليدي وتقدّم من خلال السيراميك قوة جذب باتجاه المتذوّق وبقى الفنان وفيا لخطابه منذ ستينيات القرن المنصرم ليومنا هذا، مع أن نزعته الشكلية بدت غريبة علينا لكن مهارته وضرورة بناء فن يتماسك في شكله يدعونا جميعا لمراقبة كل جديد يأتي منه.
فالمختلف عنده أنَّه لا يتعامل مع الخامة بدافع اللعب، بل بشعور الانتماء وكشف مساربها، لهذا تجده يقدم تجربة فريدة لها مقدرة في الشكل والمحتوى لكن الحقيقة المرة عند الغالب منا أننا لم نعِ محتوى خطاب تلك الأشكال التي تبدو مبهمة، وجزء منها تتراكم فيه إزاحات شكليَّة، ولو تفحّصنا نتائجها المثيرة لوجدنا عجزاً في تفسير إيقاعها الداخلي، أعماله تميل لفن خارج عن الذاكرة بخلاف الغالب من فناني الخزف، إذ يميلون لوظائف تقليديّة لكن مع شنيار هناك تصور من إنتاج بنائيّة هندسيّة لم يكن غايتها أن تضمر الدهشة إنّما تجاري حسّا داخليّا للفنان حتى لو بدت غرائبيّة تلك الأشكال في السيراميك الذي لا يقبل الغموض، لأنَّه فن يقترب من حرفة يتعامل معها الغالب منا؟
ثمّة شعور بالانتماء لعلامات خالدة وحروف وتكوينات ذات طابع رمزي احتفى بها في عمله، إنّه يستعير الإشارات ليقدم الأفكار التي تختصّ به، ولهذا أقول دائما عن شنيار إنَّ فرادته مثاليَّة لو تفاضل الأمر مع غيره، فبحقّ يبدو لي بأنَّه يستمدُّ فكرة فنه من خلاصات تتعلق بفن فريد وطبيعة مميزة، وهنا تلعب المهارة والقدرة وأصل فكرة الاختلاف مع الفنان الآخر الدور في تأسيس هذا المعنى.