يتفاخر الزعيم الشيعي مقتدى الصدر أنه من وضع ختم إمضائه النهائي على جميع رؤساء الحكومات، من بينهم غريمه نوري المالكي. لهذا كان واثقاً من عدم تمرير مرشح المالكي لرئاسة الوزارة، محمد شياع السوداني، بعد مرور عام على فضيحة عدم تشكيل وزارة “شيعية” متزامنة مع ثنائية تعيين رئيس الجمهورية الكردي، وبعد أن وجد السنة أنهم الأسهل في محطات المحاصصة كما تمثل في الانتخاب السلس لرئيس البرلمان محمد الحلبوسي.
أحزاب الولاء الإيراني المذهبية قاتلت وحرصت على عدم التفريط بقواعدها الطائفية في قيادة حكم العراق منذ عام 2003 حتى السنة الأخيرة أكتوبر 2021 – 2022، بعد قيام الانتخابات المبكرة التي كان هدفها الشعبي إجراء التغيير في طبيعة النظام القائم وتخليصه من مافيات الفساد والمجيء بحكومة شعبية نزيهة تَعطلَ تشكيلها عاما كاملا بسبب إصرار الإطار التنسيقي للمالكي على إبقائهم متحكمين بشؤون الحكم والسلطة في بغداد، وفق ما سمّوه بالتوافق السياسي وهو غطاء لسيطرتهم.
لم يتوقع نوري المالكي ولا إطاره التنسيقي صدمة الصدر في تقديمه هدية الـ73 مقعداً برلمانياً لهم، لبدء مرحلة عودة نفوذهم البرلماني والسياسي في الحكم، لهذا تم تمرير العجلة بسرعة وفتحت التفاهمات مع كاكا مسعود.
نوري المالكي القائد الفعلي للإطار التنسيقي مناور شرس، لا يمتلك الحد الأدنى من قيم التحالفات السياسية، خاصة مع القائد الكردي مسعود بارزاني. حينما حوصر ذهب إليه في أربيل ذليلاً يقدم كل ما يطلبه كاكا مسعود، لينقلب عليه بعد قضاء حاجته. كان ذلك عام 2010 حين حوّل مسعود بارزاني فشله وخسارته الانتخابية إلى منتصر وحاكم للعراق.
مواسم هجمات المالكي الإعلامية ضد مسعود بارزاني كثيرة، مثالها الأكثر قسوة عام 2017 بعد إعلان استفتاء كردستان، حيث وصف مسعود بغير الشرعي في قوله “سياسات الرئيس غير الشرعي بارزاني لم تكن في يوم من الأيام تعبر عن الشراكة طوال هذه السنوات، فهو عارض مرارا تسليح الجيش العراقي وتجاوز على الدستور عبر الاستحواذ على النفط العراقي”.
وحذر من تحول كردستان إلى مساحة نفوذ وتآمر دولي إقليمي ضد العراق ودول المنطقة وشعوبها وتاريخها ورسالتها، داعيا الشعب العراقي عربا وكردا وأقليات إلى إفشال مخطط الانفصال المدعوم من إسرائيل. مضيفا “هذا المشروع مهد له بارزاني عبر دعمه لداعش في إسقاط محافظات الموصل وصلاح الدين”.
في الشهور الأخيرة الماضية كانت واحدة من المبررات التكتيكية في دعم المالكي لبافل طالباني ابن هيرو إبراهيم أحمد، أرملة جلال، هو الاستثمار الشخصي المتواضع لكره هيرو الشخصي التاريخي لمسعود وعائلته البارزانية. لكن مثل هذه الحسابات الانتهازية لا ترقى إلى مستويات العمل السياسي وتحالفاته. هذا هو السبب المباشر الذي دفع بنوري المالكي للتخلي عن التزاماته مع بافل بترشيح برهم صالح لدورة رئاسية جديدة حيث كان مسعود رافضاً له. لهذا تمت الصفقة بين المالكي وبارزاني لتعيين عبداللطيف رشيد رئيساً للجمهورية كمرشح تسوية في الساعة الأخيرة.
مسعود بارزاني يمتلك خيارات من المناورة السياسية التي تحافظ على مكانة البارزانيين في مركز الإقليم أربيل، رغم إن إرث جلال طالباني العائلي، الذي أحيته وغذته وما تزال أرملته هيرو في السليمانية، يشّكل إزعاجاً سياسياً يبدو أنه سينتعش في الأيام المقبلة بدعم إيراني مباشر، وقد يعيد مرحلة من الصراع اللوجستي قد لا يصل إلى ما حصل في تسعينات القرن الماضي حين استنجد مسعود بصدام وبجيشه للانقضاض على قوات جلال التي هاجمت أربيل عام 1996.
ليس المهم بالنسبة إلى مسعود شخصية رئيس الجمهورية البديل لبرهم صالح، ما همّه ونجح فيه إسقاط برهم الذي اتفق بصورة غير مباشرة على هذا الهدف في إسقاطه مع هيرو والدة بافل الكارهة لبرهم، لعبة نساء سياسة مُحكمة.
على المستوى الشخصي عبداللطيف رشيد كان رفيقاً للراحل جلال طالباني متزوجاً من شقيقة هيرو ومديراً لأعماله في لندن، عينه بمنصب وزاري لسنوات، ثم أصبح منزوياً في السنوات الأخيرة بعد وفاة جلال طالباني عام 2017. تم العثور عليه ليفوز بورقة اليانصيب صدفة.
التسريبات غير المؤكدة، وليست مستبعدة، تشير إلى أن مسعود بارزاني حصل على مطالب كردية في صفقته الحالية مع المالكي، بينها عودة الأحزاب الكردية إلى مكاتبها المطرودة منها في عهد رئيس الوزراء حيدر العبادي وسن قانون النفط والغاز والعمل على تفعيل المادة 140 المتعلقة بما تسمى المناطق المتنازع حولها.المالكي وإطاره التنسيقي المفكك، بعد مرحلة النجاح التي يعتقدها والغلبة على مقتدى الصدر، يتوهم أنه سيسير وفق مناوراته لتمرير صفقة الحكومة الجديدة والعودة بقوة لقيادة السلطة، بمساندة الميليشيات التي تساند رئيس الحكومة المُكلف السوداني بعد خصومتهم مع رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي.
لكن حصاد الحقل ليس كحصاد البيدر، كما يقولون؛ رغم المقدمات الدعائية للسوداني والاحتضان العالي دفئاً من نوري المالكي، هناك مؤشرات على انقسام الإطار، من بينها تصريحات بعض القادة بينهم حيدر العبادي بعدم موافقتهم على تلك الصفقة من دون رضا زعيم التيار الصدر مقتدى الصدر.هناك استحقاقات أمام رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني تحولت من مطالبات ثوار أكتوبر وشعب العراق، التي أرغمت رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي على الاستقالة عام 2018، اليوم ممكن لهذه الاستحقاقات أن تتجدد بوجه الولائيين المتورطة ميليشياتهم بقتل الشباب العراقي مع تجدد عودة الولائيين ومشروعهم في الفساد والنهب، حيث ظلّت معلقة رغم تولّي رئيسي جمهورية ووزراء على الحكم في بغداد.
لا توجد التزامات علنية في المقدمات الدعائية المعتادة لأيّ رئيس وزراء مكلف في العراق منذ 2003. ولم يتعرض أيّ منهم لسلاح الميليشيات وتطويق نشاطاتها وحصر السلاح بيد الدولة، رغم توقعنا بأن برنامج المرحلة الجديدة لإطار نوري المالكي الذي سيقود رئيس الوزراء الجديد إذا ما استمر في مهامه – ولا نتوقع له ذلك – سيكون امتداداً لحقبة ما قبل 2018 في تجديد هيمنة حزب الدعوة ذي الإرث الاستبدادي الطائفي، المعروف بقمعه وارتهان المؤسسات الحكومية لتقاسم الموارد العراقية، وقد ينتظر مبلغ 87 مليار دولار المودع في البنك المركزي من فائض الموارد النفطية من سيحوله إلى الجيوب المتعطشة مجدداً.
هل سينتفض ثوار أكتوبر مجدداً لمواجهة عودة الولائيين إلى الحكم؟ واحد من بين تساؤلات كثيرة تطرح حول ما تعيشه الثورة في المرحلة الجديدة من ظروف قاسية مزّقت بنيانها التنظيمي وشتتت جهودها بفعل الاختراقات الكثيرة في العام الأخير.
قد يدخل العراق مرحلة خطرة تؤدي مجدداً إلى ضحايا من دماء الشباب بلا مردود يعود لصالح ثورة الشعب. لكنّ الثائرين لا يستمعون إلى أصوات من خارج ميادينهم.
العقدة التي عطلّت قيام الحكومة لمدة سنة هي مشروع مقتدى الصدر المضاد للإطار التنسيقي، منذ إعلان فوزه الانتخابي في أكتوبر 2021 وتحالفه الذي انتهى بالتفكك مع الاتحاد الكردستاني والسيادة السني، بعد إعلانه الفشل وتسليمه 73 مقعداً لنوري المالكي.
لم يعد للصدر مشروع للثورة الشعبية بعد تخليه وإعلانه اعتزال العملية السياسية، كيف سيعود مجدداً بعد رضوخه لعملية تكليف رئيس الوزراء الذي رفضه بشكل قاطع، محمد شياع السوداني. التصريحات الصدرية الأخيرة على لسان الناطق باسمه قاسية في وصفه لحكومة السوداني المنتظرة بأنها “حكومة ميليشيات” أعلن مقاطعتها، لكنه موقف إعلامي استهلاكي لا يغيّر شيئاً من المعادلات السياسية التي كانت بيديه وتخلّى عنها.
الاعتقاد السائد بأن المالكي يعيش نشوة انتصاره الشخصي والسياسي على مقتدى الصدر، بعد أن ذهب الكرد والسنة إلى التحالف أو الاتفاق معه على صفقة الرئاستين. لكن قد تقود عقلية المالكي الدكتاتورية والاستبدادية الفردية إلى سلوك شاذ تحت ظروف النشوة السياسية يؤدي إلى أوضاع أمنية وسياسية معقدة، من بينها تصعيد الصدامات الأمنية وقمع ثورة الشباب إذا ما انطلقت مجدداً بوجه السوداني وحكومته إن شُكلّت.عاد الولائيون بقوة للتحكم بالسلطة في بغداد، فهل سيعود العراقيون لمواصلة ثورتهم ضد الظلم والاستبداد والفساد والعمالة للخارج؟هذا ما ستشهده الأيام المقبلة.