رشيد الخيّون
تجري في العراق، هذا اليوم، انتخابات يتداخل فيها الأمل باليأس. بين التغيير أو إبقاء الوضع على ما هو عليه. مع ذلك ليس لأحد إنكار وجود انتخابات، مهما رافقها من عثرات وعقبات، فهناك فرق كبير بين إعلان نظام الحزب الواحد والقائد الواحد بإجراء انتخابات، مثلما هو الحال بسوريا، أو أن يكون المرشح إسلامياً ومؤمناً بنظرية رأس الدولة كإيران، وبين وجود منافسة جادة مثل العراق. نعم هناك إحباط، إلا أنه ليس لنا نفي منافسة انتخابية.
وصل عدد الكيانات المشاركة اليوم في الانتخابات 276 كياناً، بـ9039 مرشحاً ومرشحة، يتنافسون على 328 مقعداً، منها ثمانية للمسيحيين، والأيزيديين، والصابئة المندائيين، والشبك. على خلاف الدورات السابقات تجري هذه الدورة في ظل قانون انتخابات صدر في 4 نوفمبر 2013، مع أن البلاد مازالت بلا قانون أحزاب، والذي يضبط مصادر الأموال ودرجة علاقاتها بالخارج على حساب الداخل، وما الجائز في عملها وما غير الجائز.
كان الحماس طاغياً في الانتخابات الأولى (30 يناير 2005)، وعدد أعضاء البرلمان 275 عضواً، وسميت بالجمعية الوطنية الانتقالية، مع انتخاب مجالس ثماني عشرة محافظة، هي محافظات العراق كافة، خاضها 223 كياناً أسفر عنها تشكيل خمسة وثلاثين ائتلافاً، والغالب منها تشكل على أساس طائفي ومناطقي، وهو ما أُسس بعد مجلس الحكم (2003- 2004) للوثة الطائفية بمفهومها الديني والاجتماعي.
بعدها بشهور جرى الاستفتاء على الدستور (15 أكتوبر 2005)، ولا أظن أن الملايين الذين استفتوا بـ«نعم» أو «لا» على الدستور قد أطلعوا عليه، وفهموا محتواه وتناقضاته، إنما جرى الاستفتاء بتأييد سياسي وتحشيد طائفي أيضاً. فشرعية هذا الدستور جاءت بالتحشيد والتهييج والتخويف، لا برأي من قَبِل به ومن رفضه على حد سواء، إلا أنه حسب ما كتب عنه مختصون كان دستوراً مرتبكاً. على العموم فاز بالتصويت وصار وثيقة شرعية، يفسرها السياسيون على مزاجاتهم.
بعد تجربة الانتخاب الأولى، التي أسفرت عن سلطات مؤقتة، جرت انتخابات ثانية، مِن دون فاصل استراحة للناخبين، وذلك في 15 ديسمبر 2005. فكان العام المذكور موسم انتخابات واستفتاءات، وكان الأمل يحدو العراقيين بتحسن الأحوال، واستبدل نوري المالكي بإبراهيم الجعفري، وتشكلت الحكومة، بعد شهور مِن المفاوضات العسيرة، فالأخير لا يريد التنازل، وأخذ يقول ما كان يقوله الملك فيصل الثاني (قُتل 1958): «شعبي العظيم»، وياء التملك هذه، المضافة للشعب، لا يقولها غير ملك ورث العرش عن ملك، لا رئيس وزراء لم يُنتخب مباشرة إنما أُنتخب كيانه، وفي عاصفة طائفية لم تشهد البلد مثلها. خرج فجأة جواد المالكي باسم نوري المالكي، على أن الأول كان اسمه الحزبي، الذي ظل عليه حتى وهو في الجمعية الوطنية الأولى، أي قُبيل البرلمان المنتخب.
بعدها جاءت الانتخابات الثالثة (7 مارس 2010)، بلغ عدد المرشحين فيها 6281 بينهم 1813 امرأةً، وتوزعوا على 167 كياناً، أسفرت عن اثني عشر ائتلافاً تنافسوا على (325 مقعداً)، دخلها «حزب الدعوة الإسلامية»، ومَن ائتلف معه في «دولة القانون» بمفرده، رافضاً دعوات الأحزاب الدينية الشِّيعية الأُخر للتحالف معه، فكان يظن أنه سيُشكل الكتلة الفائزة الأكبر ولا يحتاج إلى تحالف لتشكيل الحكومة، وبعد فوز «العراقية» بأحد وتسعين مقعداً، وهي الأعلى، عاد طالباً الانضمام في تحالفات، فضمن التجديد لولاية ثانية، وما كان يحصل ذلك لولا اتفاقية أربيل.
يدخل حزب «الدعوة» ضمن ائتلاف دولة القانون أيضاً، مع وجود فروع أُخر، مثل «الفضيلة» و«بدر» وقسم مِن الشيعة التركمانيين، كقوارب إنقاذ في حالة العجز عن الحصول على أصوات كافية. ومثلما تحدث «الدعوة» عن تشكيل حكومة أغلبية سياسية، في انتخابات 2010، يتحدث الآن بالمنطق نفسه. غير أن مفردة «التغيير» اجتاحت الشارع العراقي، وهي الشعار الأقوى في الدعاية الانتخابية، ونجدها معترضة لدعاية ائتلاف «دولة القانون» التي تدعو إلى البقاء على الحال لا التغيير، فرفعت عبارة البقاء في ولاية ثالثة لـ«استمرار المنجز» مع صورة لمحمد باقر الصدر (أُعدم 1980) كداعم شرعي! ورفع الأقارب والأصهار لافتات الدعاية مع الإشارة إلى درجة القربى بالاسم والصورة، مع الحرص على لقب «الحاج».
نفهم من خُطب منابر الجُمع، والتجمعات المدنية، في الحث على المشاركة في التصويت؛ أن هناك تكاسلا وعزوفاً لدى الجمهور العراقي عنها، فإحدى عشرة سنة تكفي للشعور بهذا الخذلان. بينما عدد المرشحين قد زاد كثيراً على عدد مرشحي الدورة السابقة بـ2758، يتبعه زيادة في عدد الكيانات، ولا تعني تلك الزيادة علامة صحية، فلعلها من ألاعيب الكيانات (الحيتان) لضمان التحالفات في البرلمان، وصوت واحد قد يُعطل تشكيل حكومة تغيير، أو تجديد ولاية، فمِن تفاسير الدستور القضائية يمكن ضمان الولاية في رئاسة الوزراء لمدى الحياة!
يُنتظر ما تسفر عنه نتائج «الملحمة» اليوم الأربعاء، ونصفها بالملحمة لأن هناك من سيستميت لبقاء «الاستمرار في الإنجاز»! ومن يقابله باستماتة أيضاً على خلعه، بشعار «التغيير بصوتك» وشعارات لم تكن في الحسبان. فالملاحظ أن الدعاية الانتخابية، لهذه الدورة، قد خرجت عن الذوق العام، بحاجة إلى أدباء ورسامين ساخرين يوثقون هذه اللحظات، وصحف فكاهة تحرر أخبارها، من مستوى صحيفتي «كناس الشوارع» (1925)، و«حبزبوز» (1931-1938) وغيرهما.
ولد البرلمان السابق كسيحاً بعملية قيصرية، لعبت أربيل دور القابلة. جرى الاختلاف فيه حتى على كلمة الاستهلال، التي عادة يُلقيها أكبر الأعضاء سناً. ثم خلاف الجلسة الأولى التي حدث فيها الانقلاب الواضح، في الدقائق الأولى، على اتفاقية أربيل. نقول ذلك كي يُفهم أن هذا اليوم بالفعل يوم ملحمة على المناصب، ولا يجوز الإطلاق، فهناك من يؤرقه سوء أحوال البلاد، وأخذ يخجله تزاحم ضحايا العنف في القبور.
لصالح الجعفري (ت 1979): «أكل يوم ضجيج/ يقوم حول المناصب/ وأعجبُ الكل ينمي/ إلى اختلاف المذاهب» (الخاقاني، شعراء الغري)، أي لعبة الطائفية. ننتظر ماذا تسفر عنه هذه الملحمة. في انتظار التغيير لأربعة أُخر سيشيب من يشيب ويهلك من يهلك. صحيح أن من معاني الملحمة: «الوقعة العظيمة في الفتنة» (الصحاح)، لكن أقدم الأدب، وهو الأدب السومري الذي عُرفت ألواحه بـ«ملحمة جلجامش»، يرِد المعنيان: إما بقاء الفتنة وإما التغيير!