أعتقد بأن التأمل، وليكن تفكيراً مفرداً في خلوة أو في مكتب صامت، هو انحياز للذات أولا. لماذا انحياز للذات؟ لأنه محاولة صامتة لايجاد حل، لرؤية خفيّ، للوصول الهادئ إلى رأي اخر غير المتيسّر المشترك وهو بحث في أفكار تنتمي للمتأمل نفسه، مما اكتسب ومما رأى. وهو نتيجة ذلك نوع من كره، من الابتعاد عن، المبتذل. نوع ايضاً من الملل السائد ونوع من التمرد على السياق. بإيجاز هو نوع من العمل السري للفردية.
لكن هل بقصد التحرر من الآخر أم بقصد الاكتفاء إذ ثمة عوز؟الموقف من الساعي الى «غير هذا.. «الى» المخالف احياناً، الى الكامن»، قد يكون جزاؤه قتلاً وإذا هان فحرماناً أو نفياً وهو الكثير والمعتاد. لكن في احوال يكون تعاطفاً، وهذا التعاطف اما ان يكون بريئاً أو يكون استياء من الموضوعي، من صلابة المفترض، او بسبب امتلاك بذور تأمل أو بذور تمرد!من هم المتعاطفون مع «المتأمل الفردي»؟ هم إما متأملون آخرون، يواجهون إشكالاً آخر وإما أميون بسطاء يحبون أو يكرهون لأسباب تعنيهم. ثمة اذاً قربى!
من بين العقوبات التي ذكرتها لنا الكتب بحق المتأمل، هو أن يُخترق بمخدّر أو بإثارة هلوسات أو يُسْتدرج أو يُغالَط، فيبوح بغير نظام، وثم يلتقط ما يتساقط منه وتُصنع منه أجوبة بنظام. بعض المتأملين التزموا الصمت واحكموا إغلاق أنفسهم فكان الحل حلاً أعمى: قُتِلوا! أوقف التأمل ونال المتأمل عقابه! جرت محاولات توفيقية قصد عدم إتلاف التأملات وعدم قتل المتأمل وذلك برفع الضرر عن السائد والمتبنى، إبعاد التأمل عن المنطقة. لكن هذه مصادرة أسسٍ وقتل مبدأ البحث عن المختلف وعن «السِوى». بالنسبة للمؤسسة الأكاديمية، التفكّر هو بحث في الذات. هو تحريض الصمت على الاستجابة. ووصف التأمل بالجنون والمتأمل بالمجنون، له تسويغ منطقي. فهو ضمن منظومة الأفكار وخارجها وهو هذا الموقف الشعبي من المتفكرين، من المتصوفة ومن الفنانين المتماهين بفنهم أو المخلصين للذات.
هم في الحال وخارجها، فهم خارج منطق العوام، وهنا ندخل في برزخ إشكالي آخر: هل من هو في الحال وخارجه موضع ذم أم هو ممتحَن فهو موضع عطف؟ وهنا نسأل هل كان قتل الحلاج عقاباً عادلاً كأن يكون دفاعاً عن المقدس أو عن الفضيلة أو عن الحكمة والعقل وسلامة طريقة العيش ضمن الجماعة؟
لا نستطيع ضمن هذا المنطق– أن نجرّم القتل. لكننا حين ندرك انه امتلك قدرة النظر الأبعد، فهمَ الماوراء ونطقَ بغرائب لا نراها– وإلا لكانت مألوفة لا تثير غرابة أو كراهة في حال إدراكنا لإدراكه وخارقته والصيحة من دهشة إعلان الغرابة. إذاً، كان القتل جريمة متوحشين! كما يتضح صار الموقف بين الصواب الطبيعي والخطأ غير الطبيعي. فرصتنا الحضارية، امتيازنا الإنساني في النظر إلى البعيد وكره المبتذل، الانتماء للجديد المستحدث والابتعاد عن الصورة الملصقة على جميع الجدران.
هل لهذا السبب في الأدب والفن يبحثون عن جديد ليبتعدوا عن المألوف، عن المبتذل، عما لم يعد لهم؟ أزمات المسعى وأزمات اللا وصول تصلنا الواحدة بالأخرى. فما تحدثنا به وضع فضاء مراقبة بين الذات والمجموع بين أنا وهم، بين اللامرئي والسائد. ففي الوقت الذي تزيد فيه “إرادة” العلم في فرض مدياته وتوسيعها، وفي هذا إبعاد عن التأمل الذاتي الغيبي في مرحلته، نجد ان التحضر يوسع مديات السيكولوجيا للتقرب أكثر من عوالم الذات، مما وراء التفكر، مما نستكشفه أو نتبناه سرا.
وتزايد هذا الاهتمام واضح معترف به، لاسيما والسيكولوجيا علم أيضاً! لا مشادة، لا خصومات وتباعد. نحن في العصر، في مرحلة مشتركات موضوعية، سائدة مألوفة وجديدة مطلوبة! وهي تزداد بازدياد تقدم الحياة والتقنيات والكشوفات المختبريه و.. استنطاق المناطق الصامتة في الذات! صحيح يتضح هذا أكثر باتساع الروح البرجوازية، ولكنه غير مقتصر عليها، هو الآن يكتسب صفة العموم. وما يصرح به علماء فيزياويون وما يقر به مختبريون من حالات تأمل، وكم من وسائل علمية، تقنية يستعين بها مفكرون واهل نظر، كل ذلك يقول لنا: تقلص كثيراً حجمُ الفضاء الذي كان فاصلاً!.