ستقرأ الأجيال العراقية والعربية مستقبلا أنه قد ظهر في العراق، بعد احتلاله من دولة كبرى وأخرى مجاورة طامعة فيه في أوائل القرن الحادي والعشرين، قوم محليّون من الجهلة وفارضي الوصاية على الناس بالدجل والخداع، أرادوا الاستناد إلى قوة معنوية كاذبة للسيطرة على الناس، وأعادوا للذاكرة حكاية عرب الجاهلية، قبل 1450 عاما، الذين كانوا يصنعون لأنفسهم آلهة من التمر وحين يجوعون يأكلونها. قصة فيها دلالة على أن فرض الإرادات والزعامات الخالية من العقل والمنطق زمنها قصير.
ستقرأ الأجيال المقبلة أيضا صفحات مؤلمة تجعل من مقولة احتلال هولاكو للعراق نكتة عابرة، وذلك لما تحفره النكبة الكبرى الحالية في حياة العراقيين من جروح عميقة صنعها الاحتلال وأوكل الاستمرار في إيغالها بالجسد العراقي إلى عملاء وأجراء محليين يتشرفون أمام الملأ بتبعيتهم للخارج.
في مفردات المشهد السياسي اليومية، المهم بالنسبة إلى نظام خامنئي ليس فرضية مَنْ يصبح رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزراء، بل الأخطر هو محاولة علاج تفكك عقدة التحكم وانهيارها
نكبة العراقيين اليوم تتجاوز الفقر والأمراض والأمية والمخدرات وتدمير البشر، في مقدمتهم الشباب، إلى تنفيذ مشروع إزاحة القيم الإنسانية الأصيلة التي صنعها تراكم التاريخ، بعد أن أُسقطتْ الدولة العراقية المعاصرة حامية تلك القيم، واستبدلتْ بنظام جديد غريب على العالم الديمقراطي جعل السرقة والخيانة والعمالة للأجنبي حلالا وعنوانا للذكاء، والصدق والأمانة والإخلاص أكذوبة يجب مكافحتها.
الأخطر من ذلك كله والأهم في مفردات المشهد الحالي الذي نعمل على تشخيصه والاجتهاد للخروج منه بحلول واقعية، نحن وكل أصحاب المعرفة الثقافية والسياسية العراقيين الصادقين المُحصّنين من أمراض الطائفية والعرقية والمناطقية، أن قوى الفوضى والعمالة للأجنبي تعمل بما تمتلكه من تراكم الإمكانيات المادية الهائلة والدعم الخارجي بجميع الوسائل الخبيثة، والضرب بهمجية وحشية أي محاولة سياسية عراقية لامتلاك قدرات أولية للصمود، وفتح ثغرة أولية في جدار المحنة.
أهم الإمكانيات والوسائل التي تسبق قوة المال والسلاح لدى قوى الخيانة في البلد هو الإنجاز التاريخي الذي تحقق في الإسراع، ووفق توجيه وفتوى المرجعية الشيعية، لصناعة دستور عام 2005 الذي تحوّل إلى لعبة مراهقين، يتم تقبيله بآيات المديح إذا ما داعب مخيلة الصبيان، ويرمى جانبا عندما لا يلبي الرغبات في استمرار تحكم الطبقة السياسية الفاسدة والعميلة.
رغم مرور ثمانية عشر عاما على أخطاء وكوارث الوثيقة الدستورية، ابتداء من غموض المفاهيم ودلالات النظام السياسي وتوصيفاته بأنه دولة مكونات، مرورا بآليات صناعة السلطة، كان الإصرار على عدم تعديله لكي لا يفتقد سحره في ضمان استمرار حكم مجموعة العملاء والخونة وفق المحاصصة الطائفية وهيمنة شيعة إيران واضطهاد شيعة العراق العرب. وتم الاعتماد على مؤسسة المحكمة العليا كبديل خادم لتلك الآليات، وتحوّلت الاجتهادات والتفسيرات الغريبة التي لا وجود لها (الأغلبية الشيعية) إلى مفردة انتخابية ومناورة سياسية لم تعد فاعلة.
الوصاية المتواصلة من المرشد الإيراني ومؤسساته التنفيذية التي لا تترك عملاءها لوحدهم في الساحة، وتراكم التجارب والخبرات المحلية، يشكلان ما يمكن أن يسمى نظام تحكّم سياسي إيراني في العراق، قاعدته الأساسية الحفاظ على المنطلقات الأولى بعدم السماح بقيام دولة عراقية مدنية وفق السياقات الديمقراطية والليبرالية الحديثة، والإبقاء على غموض النظام ما بين شيعي موال لإيران حاكمه رجل دين معمم، أو قريب من المدنية، ومنع تراكم المال الرسمي وتحويله إلى برامج تنموية تنفع الناس لأن ذلك يؤدي إلى تنامي واشتداد قوة الإنسان العراقي، وإلى ما يسمى بالاكتفاء الذاتي أي عدم الحاجة إلى الخارج الإيراني بصورة خاصة.
من يتولى حماية نظام التحكم هذا هي أحزاب الإسلام السياسي، بغض النظر عن مسلسل الفشل والسرقات المليارية الموثّقة ضدّ شخوصهم ومعاونيهم وأنصارهم، والتي يستحق أقلها، وفق العدالة والقضاء، حكما بالسجن المؤبد واستعادة الأموال المسروقة. وتدعم قيادات هذه الأحزاب هيئة ميليشيات مسلحة بعقيدة الولي الفقيه، تدرجت في هيمنتها من الشارع إلى مؤسسات السلطة (برلمان وحكومة) للوصول إلى استنساخ تجربة الحرس الثوري الإيراني. وعدم السماح بوجود أي فعالية سياسية شيعية عراقية تخرج عن هذا النظام؛ وتجربة مقتدى الصدر الحالية دليل على ذلك.
من الصعب استمرار هذه النظم والقواعد السياسية الشاذة والغريبة على شعب العراق وحركته السياسية الوطنية التاريخية التقليدية، حتى على افتراض اقترانها بالإنجازات العملية في حدودها الدنيا التي لا وجود لها. فمسلسل الترويع والقتل والتغييب والفساد والنهب والاستبداد والكراهية والثأر من شعب العراق هو الإنجازات الواقعية لصالح استمرار تلك القوى، يقابلها رصيد مواجهة شعب العراق في المقاومة المسلحة للاحتلال الأميركي، حيث دفع أبناؤه دماء عزيزة منذ عام 2003 حتى عام 2011، حيث تحولت المواجهة الوطنية إلى حركة سلمية ضد الاحتلال الإيراني ومظاهر نفوذه في العراق.
المأزق الكبير الذي واجهه نظام التحكم الإيراني في العراق عبر وكلائه هو خسارة اللعبة المصنوعة باعتماد خدعة شعار “حماية الطائفة الشيعية” بجميع مفرداتها وآلياتها. حينما برز حراك شيعي معارض، قدمه أنموذج ثورة شباب أكتوبر 2019، كشف تلك الخدعة وقدّم شهداء بررة من بين صفوفه، تجاوز عددهم الألف خلال شهور قليلة. هذا الحراك لم يمت بل يعيد الحياة في نظرية “كلما زاد الظلم والقتل تضاعفت قوة الثورة واقتربت من هدفها الوطني”.
المثال العملي الثاني الذي يؤرق قادة التبعية والعمالة، رغم اختلاف الكثير من المجتهدين في الشأن السياسي العراقي حول جدّيته، هو ظهور فعاليات سياسية وصلت إلى أبواب معمار الحكم، من بين الشيعة أنفسهم، مثّلها مقتدى الصدر بالتحالف مع قيادات سياسية سنيّة وكردية عبر آليات اللعبة الديمقراطية التي يتداولونها. هنا أصبح الخطر جدّيا يتطلّب التدخل المكشوف، فنظام طهران لا يكترث بكل التقاليد والأعراف الدبلوماسية وغير الدبلوماسية حين تتهدد مصالحه الاستراتيجية ويتراجع أو يختفي سحر لعبة أيديولوجية (المذهب) ليس في العراق فحسب، إنما لخدمة الهدف الأهم المقبل في منطقة الخليج لتنفيذ مشروع التحكم هذا.
في مفردات المشهد السياسي اليومية، المهم بالنسبة إلى نظام خامنئي ليس فرضية مَنْ يصبح رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزراء، بل الأخطر هو محاولة علاج تفكك عقدة التحكم وانهيارها. مثلا، إذا ما فشل خليفة قاسم سليماني إسماعيل قاآني في ردم الصدع الشيعي بالعراق، رغم زياراته المكوكية، يحضر إلى بغداد من هو أعلى مرتبة منه، علي شمخاني رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، بلا استئذان من أحد، لغلق الفوهة التي تكبر كلّ يوم وتنذر بانهيار المنظومة الإيرانية في العراق.