شبكة أخبار العراق : يعتقد شتيفان ماول، الباحث الألماني المختص بحضارات وادي الرافدين القديمة أن ملوك العراق القديم تمكنوا بفضل علمية قراءتهم للمستقبل، من إدارة ممالكهم في أحلك الأوقات، وفي مختلف الأزمات، وبقدرة تحسدها عليهم مؤسسات الدول الحديثة المعاصرةويرد اسم بابل في الثقافة الغربية المعاصرة مرادفا للأساطير والسحر والتنبؤ بالمستقبل. ومن يتابع أفلام هوليوود في العقود الأخيرة، يلاحظ هذا الارتباط الذهني الغربي بالسحر الشرقي، من خلال أفلام المغامرات والخيال العلمي والرعب، بدءًا بفيلم ‘غوست باسترز’، مرورًا بالـ’أمير فارس’ وانتهاءً بثلاثية ‘ماتريكس’.
حلم إنساني قديم
ويبدو أن سمعة العراقيين القدماء في السحر والشعوذة وقراءة الطالع لم تأت بضربة حظ، أو بفضل التنجيم، أو بسبب العلاقة بالآلهة، لأن محاولاتهم الأولى باءت بالفشل، رغم كل أعواد البخور التي اشعلوها، ورغم كل الأضاحي التي قدموها، ورغم العدد الهائل من الشموع التي احرقوها في المعابد. وبقيت الطقوس الدينية في ذلك العصر الغابر أبعد ما تكون عن تلبية طموح حكام ذلك العصر في قراءة الطالع.
استشفاف المستقبل
ويقول شتيفان ماول، الباحث الألماني المختص بحضارات وادي الرافدين القديمة، إن فشل محاولات العراقيين القدماء في التنبؤ بالمستقبل عن طريق الطقوس الدينية، والتعويذات السحرية، والاضاحي دفعهم إلى اعتماد البحث والتنقيب العلميين لاستقراء المستقبل. ويفسر ماول، الذي ترجم ملحمة جلجامش إلى الألمانية، على هذا الأساس كيف توصل البابليون القدماء علميًا إلى ما فشلوا في التوصل إليه عن طريق الخرافات والأضاحي.
يلخص ماول، من جامعة هايدلبيرغ الألمانية المعروفة، دراساته حول سر دراية المجتمعات الشرقية القديمة بالمستقبل، ويشير إلى أن حضارات وادي الرافدين القديمة نحت منحى العلماء اليوم، كما يفعل علماء الطقس، للتنبؤ بما قد يحدث لاحقًا.
وذكر في كتابه ‘استشفاف المستقبل في المجتمعات الشرقية القديمة’، الصادر عن دار C. H. Beck، أن الملوك الكلدانيين عرفوا قراءة المستقبل بنسبة عالية من الدقة، وقبل كل شيء، من أجل ترسيخ حكمهم وسلالاتهم.
ارتباط بالبلاط
بعد أن تخلص الكلدانيون من طقوس الأضاحي والشعوذة، أقام الملوك المتتالين شبكة من المعاهد العلمية التي تهتم بدراسة الظواهر وتحليلها واستنتاج العبر منها. وتحولت هذه الشبكة بالتدريج إلى مؤسسة علمية متشعبة، أشبه ما تكون بوزارة، تتفرع منها لجان بحث وتحليل تقدم النصائح والارشادات، على غرار ما تفعله لجان في المؤسسات التجسسية الكبيرة الشبيهة بالمخابرات المركزية الأميركية.
ارتبطت هذه المؤسسة الكبيرة بالقصر مباشرة، وكان البلاط يختار العلماء والباحثين وذوي المواهب من بين المقربين من البلاط، ومن الموثوقين، برغبة عدم تسرب أخبارها وتحليلاتها إلى عامة الشعب. ويقود المؤسسة مستشار مقرب من الملك، من علماء زمانه، ويضع الملك ميزانية ضحمة تحت تصرفه.
وكانت هذه المؤسسات ترصد كل الظواهر الطبيعية والاجتماعية، والغرائبية، وتعمل على تحليل أسبابها واستقراء النتائج المتوقعة عنها والمتوخاة منها. وكانت تتنبأ بحصول الكوارث والحروب والنكبات إلى جانب التنبؤ بما يضمره المستقبل من خير للمجتمع.
نموذج احتذت به الحضارات
اصبح النجاح العلمي الذي حققه البابليون نموذجًا يحتذى به من قبل الحضارات المجاورة في فارس واليونان وايطاليا. وكانت الوزارة الكلدانية مثار إعجاب العلماء الاغريقيين، الذين حاولوا تقليد التجربة بعد أن تسربت أخبارها إليهم.
ويورد الكتاب كيف بنى الكاهن الاغريقي بيروسيوس، الذين كان أحد تلامذة كهنة مردوخ البابلي، أول مدرسة لقراءة المستقبل في جزيرة كوس في القرن الأول قبل الميلاد.
وكتب ديودور، المؤرخ الهليني الكبير، أن الأكديين كانوا يقرأون المستقبل بدقة، بهدف تجنب المصائب، وبغية تعزيز فرص الخير في المستقبل.
ويضيف ماول: ‘تمكن ملوك العراق القديم، بفضل علمية قراءتهم للمستقبل، من إدارة ممالكهم في أحلك الأوقات، وفي مختلف الأزمات، وبقدرة تحسدها عليهم مؤسسات الدول الحديثة المعاصرة’.
ألواح طينية
اعتمد ماول، الحائز على جائزة ليبنيتز الألمانية نظير ترجمته ملحمة جلجامش عن النصوص السومرية، على آلاف الألواح الطينية المكتشفة في العراق، التي لم تحل رموزها بعد، في التوصل إلى استنتاجاته. وكانت هذه الألواح من العهدين البابلي والآشوري حبلى بالمعلومات العلمية التي كان علماء الأنتيكة يعملون على تحليلها واستخلاص العبر وآليات الأحداث من خلالها. ويقول ماول أن سنوات من العمل على الظواهر والتطورات المفاجئة انجب آلية عمل علمية ممنهجة تبحث في أساب الظواهر ونشأتها وصيرورتها.
ويشرح الكاتب بالكلمات والصور كيف تحولت طقوس تقديم القرابين، وقراءة الطالع في الكبد والطحال، إلى ممارسات علمية تعتمد التحليل والاستنتاج. ويخصص ماول أكثر من فصل لشرح تطور طقوس تقديم القرابيين، وطريقة تحليل الثقوب في الكبد، كما يستعرض الكثير من الألواح الطينية، والمنحوتات التي تمثل الكبد وبقية أعضاء الجسم الحيوية، التي قسّمت هندسيًا إلى مناطق لقراءة الطالع.
تنوير البشر
كان العامل المحفز، بالنسبة للملوك والعلماء، إيمانهم بأن الآلهة تركت في هذه الأحداث والتقلبات والظواهر أدلة تحاول فيها تنوير البشر بمستقبلهم. ولهذا، عملوا بكل جدية من أجل فهم الرسالة الخفية التي تنطوي عليها هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك.
من الظواهر التي تابعها العلماء القدماء وجذبت انتباههم ولادة حمل صغير في منطقة معينة بعينين مختلفتي اللون. قاموا بدراسة الظاهرة، وتتبع نسل الحمل الأولى، وتنبأوا بالنسل القادم من هذا الحمل، بل وضعوا نسبة احتمالات لولادة حمل آخر بعينين مماثلتين. سجلوا لون العين اليسرى، ولون العين اليمنى، والمنطقة التي ولد بها الحمل، والكلأ الذي تغذت عليه أمه…. إلخ. ولم يتركوا شيئًا يتعلق بولادة العمل ذي العينين الملونتين دون أن يبحثوا فيه.
كان العلماء يبلغون القصر أولًا بأول عما يرصدونه من ظواهر، ثم يوافون الملك بتقاريرهم التفصيلية عن توقعاتهم المستقبلية بخصوص ما جرى، وما إذا كان لذلك علاقة بحكم سلالة الملك، أو بسلالة ابنه، أو بتغييرات أخرى مثل الحروب والكوارث.
تلاوين المستقبل
بعد عمليات الأرشفة والتمحيص والتحليل والاستنتاج، على العلماء الاجابة عن سؤالين وطرح الجواب عليهما أمام الملك، إذ كان البلاط يتعامل مع الظواهر الغريبة كـ’نبوءات’ أو رسائل فأل تبعثها السماء لتحذير سكان الأرض. والسؤالان هما: أي تأثير سيكون للـ’نبوءة’ على المستقبل القريب؟ ولادة ولي عرش؟ أو حرب جديدة؟ وينتظر الملك الرد على السؤال الثاني، وهو: أينبغي عليه التحرك مباشرة أو التأني وتحشيد القوات والحلفاء.
وتعتبر الاجابة على هذين السؤالين بمثابة إلقاء نظرة سريعة في المستقبل القريب، أما المستقبل الأبعد فيجري استنتاجه من دراسات طويلة الأمد وفي القضايا التي لا تتعلق بالعرش مباشرة. وكمثل آخر، يجري استطلاع رأي اللجان العلمية المختلفة بخصوص بناء معبد جديد، وما إذا كانت كل الشروط مؤاتية، أو أنه ينبغي التأني في البناء ريثما تنقشع الشروط المعاكسة.
وكتب ماول: ‘تجري عند دراسة النبوءة قراءة تلاوين الحالة السلبية والايجابية، كما ينظر الإنسان إلى جسم ملون عبر الكلايدوسكوب’.
واستخدمت هذه النبوءات لتعزيز موقع الملك على العرش في أغلب الحالات، لكنها استخدمت أيضًا بذكاء لتعديل مسار بعض السياسات، وفي التخلي عن أو تأجيل قرارات شن الحروب