علمنا الزمن أن الدول الحقيقية التي تحترم نفسها عودت أهلها على أن تُعطي الحقائب الوزارية لمن يناسبها ويستحقها بجدارة. فوزارة النفط، مثلا، تمنح لخبير فيه وله باع طويل في شؤونه المحلية والإقليمية والدولية، ويفضل أن يكون قد أعطى المكتبة مؤلفاتٍ عدة عن صناعة النفط أو تجارته.
كما أن وزارة الصحة تعطى لأفضل الأطباء وأكثرهم كفاءة، والزراعة لأهم علماء الفلاحة والبيئة، والداخلية لشرطي قضى ثلاثة أرباع حياته في شؤون الأمن وهمومه، والخارجية لأفضل الناس لباقة وشياكة وديبلوماسية، وأكثرهم قدرة على صنع الأصدقاء بما قل ودل من كلام، وأعمقهم تضلعا في العلاقات الدولية والقانون الدولي وتاريخ الأمم وآدابها وفنونها وصناعاتها وأسرار عداواتها وصداقاتها وعقدها المتوارثة.
وفي دول من هذا النوع يكون أمرا اعتياديا أن يستدعي البرلمان رئيسا للوزراء أو وزيرا أو قائدا عسكريا متهَما باتخاذ قرار خاطيء ألحق ضررا بالدولة أو بمواطنيها، أو باختلاس، أو بالتعدي على مواطن أو على فئة أو مدينة أو طائفة، فيُبرأ إن كان بريئا، ويعاقب بالسجن أو الغرامة أو بكليهما، أو بالإقالة، إن ثبت عليه الجرم.
وعادةً أيضا ما يُهرع المسؤول، مهما كان موقعه ومقامه، حين يطلبه البرلمان ليدافع عن نفسه، بلا تفاهمات ولا صفقات ولا تسويات وراء الكواليس بين رؤساء الأحزاب والكتل النيابية، لتضيع الحقيقة على المواطن في خارج البرلمان.
كل هذا يحدث حين تكون الدولة دولة، والحكومة حكومة، والبرلمان برلمانا، بحق.
أما عندنا فعلى امتداد الزمن الطويل الثقيل، منذ 2003 وحتى اليوم، لم يتوقف الوزراء والنواب السابقون واللاحقون عن الحديث، علنا، ودون حياء، وعلى شاشات التلفزيون، عن مليارات مسروقة، وعن آلاف من موظفين فضائيين، وعن رشوة أو استغلال وظيفة، أو استحواذ على أرض حكومية بقوة السلاح، أو شراء مبنى حكومي دون مزايدة علنية، وبسعر مغشوش، أو تنفيع أحد الأقارب أو المعارف أو المحازبين.
ولكن لم تُرفع عن أحدٍ من الكبار حصانة، ولم يُطلب من أحدٍ من الكبار أن يواجه برلماناأو قضاءً لتقول فيه العدالة كلمتها بعد محاكمة شفافة ونزيهة وعادلة.
وفي أزمنة رؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء المتدينين الذين يخافون الله ويقتلون من إجل مرضاته، في مدى سبع عشرة سنة من الخراب، ُكان المشكوكُ بأمانته ونزاهته وذمتهيُكرم ويُكافأ ويُعين نائبا لرئيس الجمهورية أو لرئيس الوزراء، أو وزيرا للمالية أو للخارجية أو للداخلية أو للدفاع.
وعندنا، نحن فقط،، يغادر الوطن علنا ومن مطار العاصمة، ويودع بمراسم توديع مهيبة في صالة الــ VIB مسؤولٌ كبير مطلوب للعدالة.
وعندنا، أيضا، يَنسخ القضاء أحكاما أصدرها سابقا، هو نفسُه، على نائب أو وزير سابق اُدين بأكثر من جريمة.
وعندنا، حين يعود الحرامي المعفوُّ عنه إلى أحضان وطنه الحبيب لا يعود صاغرا مطأطيءَ الجبين يريد أن يستر نفسه فيختبيء في منزله خائفا أو خجلا من جرائمه وفضائحه السابقة، بل تعيد إليه الجهات العليا الاعتبار، وتُقحمه إقحاما على البرلمان نائبا محصنا من كل مساءلة، حتى بعد أن ترشح وفشل في الحصول على أصوات تمنحه النيابة والحصانة.
ليس هذا فقط، بل يتصدر هذا الحرامي المعفوُّ عنه شاشات الفضائيات مدافعا عن النزاهة والشرف والوطنية، وباكيا بحرقة على المال العام، وشاكيا من مسؤولين كبار خانوا الأمانة، واستغلوا الوظيفة، وتلاعبوا بالمشتريات.
وفوق كل ما تقدم يُضم هذا الحرامي المعفوُّ عنه، بأمر من رئيس برلمان الإصلاح والتغييروالتعمير، إلى لجنة النزاهة أو المالية أو الدفاع.
هذا هو الوطن الذي ورثه الرئيس الدكتور برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وأصبح من واجبهما أن يثبتا لشعبهما أنهما سيرفعان الزير من البير، في سبعة أيام، ويغيران وجه التاريخ، ويصنعان المعجزات التي لم يصنعها قبلهما لا عنترة ولا طرزان ولا الإسكندر المقدوني.
والمشكلة أن التركة ليست ثقيلةً وحسب، بل هي أقرب إلى المستحيل، مادام السلاح بيد المتمرد المستهتر الجاهل القاتل المحترف، وما دام المال بيد الحرامي المتمرس في الاختلاس، وما دامت عمائم الجيران الشرقيين والشماليين هي التي تدير الوطن، وتحمي الجلاوزة واللصوص وأصحاب السوابق والجرائم المخلة بالشرف.
والذي يبدو لنا، منذ أن تربع كاكه برهم على كرسي الرئاسة، ومنذ أن توج الزميل الصحفي مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء، أنهما مؤمنان بأن أكل العنب حبة حبة، وأنهما يفضلان سياسة النفس الطويل التي تؤمن بمبدأ (ضربة على الرأس وقبلة على الخد) إلى أن يموت القاضي أو يموت جحا أو يموت الحمار.
لعلهما يحققان النجاح في النهاية ولكن بعد عمر طويل، ونفس طويل، وصبر جميل. أما الشعب العراقي المُحمَّل بتلال من الآلام والأحزان والمظالم والمآتم فلن يستطيع معهما صبرا، ولن يبقى منتظرا شهورا، وربما سنوات، رغم أنهما أعرف من غيرهما بأن الخط المستقيم هو أقصر المسافات بين نقطتين.
فليتَهُما يشمران عن ساعديهما، ويؤمنان بالشعب العراقي العنيد الذي سيقف وراءهما، ويحمي ظهريهما من سكاكين الغدارين ومفخخاتهم وكواتم مسدساتهم، فيأمران، في ليلة واحدة، بحل البرلمان المغشوش، واعتقال ستين رأسا من أباطرة القتل والاغتيال والاختلاس، واحتجازهم في أحد قصور الرئاسية الوثيرة الباذخة، وإجبارهم على إعادة ما سرقوه، والاعتراف بمن قتلوه، أو سحلوه، أو أحرقوه وهو حي، وبنوع العمالة التي تربط كلا منهم بهذه الدولة الأجنبية أو تلك. ثم تنتهي الحفلة، في ليلة واحدة، ويعود الوطن إلى أهله سالما وبكامل الصحة والعافية والسلام.
ولكن بكلمة (يا ليت) لم يُعمَّر لأحدٍ بيت، كما يقولون في الأمثال.