في مقال سابق حذرت من نوايا العسكر في فض الاعتصامات بالقوة، وأظن أن أطرافا عديدة في داخل مصر وخارجها فعلت الشيء ذاته، تذكرة ونصحا وتحذيرا، وهو موقف طبيعي لكل من يحب مصر، لكل من يشفق على مستقبلها، لكن جميعها ضاعت مع الأسف كما ضاعت مساع حميدة أخرى أدراج الرياح وبالتالي وقع المحظور وحصلت المجزرة وردت المعارضة بالنزول للشوارع للتعبير عن غضبها وفقد الأمن وعمت الفوضى وبات مستقبل مصر في المجهول.. وهكذا أخطأ الجنرال السيسي ثانية في تقديره للموقف.
مجزرة يوم الأربعاء الدامي خطيئة أخرى يضيفها العسكر إلى سجل الخطايا التي بدأها السيسي في بيان الانقلاب في الثالث من يوليو الماضي وليس من المرجح أن يغلق هذا السجل حتى يعود الوعي للعسكر ويدركوا أنهم يمارسون نشاطا ليس من اختصاصهم ويلعبون في ملعب هو غريب عنهم في ظرف دقيق الحاجة فيه للحكمة وليس لقعقعة السلاح، لهذا كان من باب تحصيل الحاصل – حتى لو افترضنا حسن النية والمصداقية فيما أعلنوه – فشل جميع الوعود والتعهدات التي قطعها العسكر في بيانهم التاريخي يوم الثالث من يوليو وهم يبررون إسقاط حكم شرعي على خلفية ذرائع وحجج ثبت بالدليل القاطع كذبها، وعدوا بالقضاء على الاستقطاب والانقسام المجتمعي الحاد الذي من المحتمل أن يقود إلى حرب أهلية لكنه زاد، وإلى نبذ العنف لكنه تفاقم، والمحافظة على الدم المصري لكنه جرى كالشلال، وحماية الديمقراطية لكنها باتت في مهب الريح… الخ، وربما كان الأبرز في هذا الصدد تصريح الجنرال السيسي بقوله (الجيش المصري أسد.. والأسد لا يأكل أولاده!!) كررها مرتين، إلى جانب تصريح وزير الداخلية محمد إبراهيم الذي صرح بأن (الشرطة لم تطلق الرصاص الحي ولن تطلق الرصاص لقتل المصريين) وعود لم تعمر طويلا حيث أسقطتها وكذبتها الوقائع الصارخة على الأرض المخضبة بالدم بعد أن ثبت أن أفراد الجيش مارسوا القتل العمد بالتصويب على الرأس والرقبة والصدر بل استخدموا خرطوشا محرما دوليا ينفجر داخل الجسم؟ (ربما شبيه لما كنا نطلق عليه في العراق رصاص دم دم وهو محرم دوليا!!)، لم يفرقوا بين رجل وامرأة، بين طفل أو عجوز، بين سليم أو معوق.. صوبوا نيرانهم على الجميع وكأنهم في ساحة معركة وكل ما يتحرك أمامهم هدف واجب القتل.. لو قبلنا جدلا أن نيران الجيش والشرطة التي تسببت في قتل الضحايا إنما كانت ردا على نيران تعرضوا لها من جانب المعتصمين.. لو قبلنا ذلك جدلا، فلماذا أحرقت ما يزيد على خمسين جثة في مسجد الإيمان في ميدان رابعة؟ ولماذا تم قتل الجرحى بمنع وعرقلة وصول سيارات الإسعاف إلى المستشفى الميداني؟ ولماذا أتلفت الأدوية وضمادات الإسعافات الأولية حال دخول الشرطة والجيش هذا المستشفى؟ سلوك يدعو للصدمة ويضع علامات استفهام كبيرة حول عقيدة الجيش المصري العسكرية وقواعد الاشتباك التي يدرب بموجبها والتي يبدو مع الأسف أنها تسمح للجندي المصري أن يقتل أخاه المصري بدم بارد بل ويتجرأ حتى في حرق جثته… كيف يحصل ذلك في جيش محترف، حظي باحترام شعبه وتقديره خصوصا بعد الملحمة البطولية في العاشر من رمضان عام 73؟ لم تكن هناك حاجة على الإطلاق لارتكاب (كبيرة) زعزعت ثقة المواطنين بقواتهم المسلحة وأحدثت جرحا غائرا في ضمير مصر لن يندمل لسنوات عديدة قادمة من الزمن.
بعد الذي حدث في الأربعاء الدامي والذي يرقى أن يكون جريمة ضد الإنسانية لابد أن تلاحق العدالة مرتكبيها، لم يعد هناك مجال للشك في أن ما حصل في الثالث من يوليو كان انقلابا ربما استكمل أركانه في مذبحة ميدان عدوية، وما حصل في مصر شبيه إلى حد كبير للانقلاب الدموي الذي قاده الجنرال بينوشيه ضد الرئيس التشيلي المنتخب ديمقراطيا سلفادور اللندي في الحادي عشر من سبتمبر عام 1973حيث بالقوة وليس بغيرها تم ذبح الشرعية الدستورية، وعزل رئيس منتخب وتم تعطيل دستور مصوت عليه وحل مجلس شورى منتخب، وطورد الخصوم السياسيون وتم التضييق عليهم باعتقال القادة والنشطاء وأسكتت وسائل الإعلام المعارضة، وأطلقت يد الإعلام المضاد ليتجاوز الدستور والقانون في التدليس والتضخيم بل للشحن والتحريض دون رقيب أو حسيب وليعيد إلى الذاكرة تظليل وفبركة الوقائع والأحداث التي اشتهر بها المذيع المشهور أحمد سعيد من خلال راديو صوت العرب في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لا أدري إن كان في قاموس الديمقراطية التي تعهد بصونها والتمهيد لها الجنرال السيسي أي من هذه الأفعال.. لا شيء، بل إن ما حصل في يوم الأربعاء الدامي إنما هو مفاصلة حقيقية وإعلان براءة لكل ما يمت للديمقراطية بصلة وسيكون من السخف الحديث من الآن فصاعدا عن مرجعية ثورة الخامس والعشرين من يناير. فنحن اليوم أمام مشهد سياسي مغاير تماما، فلا الممارسات تنسجم مع الديمقراطية والسلام، ولا الآمال بقيت هي الآمال، ولا عاد الربيع هو الربيع.
البعض كان يريد المواجهة بأي ثمن، وسعى لها منذ البداية وعطل وعوق عن قصد أي مسعى مخلص لنزع فتيل الأزمة، رغم أن الحل كان ممكنا كما صرح بذلك وزير الخارجية القطري السيد خالد العطية وتأكد لاحقا في لائحة استقالة محمد البرادعي نائب الرئيس، الذي أشار إلى ملاحظة جديرة بالنظر وهي أن المصالحة بين المصريين ستحدث في نهاية المطاف رغم أن كلفتها ستكون أكبر بحكم العنف الذي استخدمته السلطة. نعم أصبح الحل أصعب مما كان عليه قبل يوم الأربعاء الدامي، لكن ذلك لا يعفينا أبداً من مسؤوليتنا في إنقاذ مصر وحقن دماء المصريين والمسألة كما أراها أكبر من الخلاف على الشرعية، هل الشرعية الدستورية أم الثورية أولى بالاتباع، وأكبر من الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين، وأكبر بالتأكيد من الخلاف حول دور العسكر ونظرة المصريين إلى الجيش، المسألة أكبر لأنني أرى مصر كل مصر مستهدفة. لقد حذرت في مقال سابق من أن الزمن قد تغير، لكن القابض على السلطة لا يؤمن بذلك لهذا نراه يعالج الخطأ بقرار أخطأ، وبناء عليه فإن من المتوقع أن يتفاقم الوضع أكثر إن لم يتداركه العقلاء من المصريين والعرب ويجبر الجيش للعودة إلى ثكناته دون تأخير ويحتكم الجميع للشرعية الدستورية كمدخل للتوافق الوطني على خارطة طريق مناسبة، وحتى يتحقق ذلك لابد أن ينبذ الجميع العنف ظالمين ومظلومين.