تنظم مؤسساتنا الثقافيّة بشكل سنوي العديد من المهرجانات الشعريّة، المسرحيّة، السينمائيّة، فضلاً عن معارض الكتاب والندوات الثقافية والفكرية والعلمية التي تعقد هنا وهناك في مدن مختلفة من بلدنا، وكذلك الجلسات الأسبوعية للاتحادات النقابات المعنية بالثقافة وغيرها.. ولكن السؤال الجدلي الأنجع في هذه المعادلة: هل تقدم هذه التجمعات مشاركة حقيقية بناءة على مستوى قضايا وأزمات المجتمع؟ هل يشارك المثقف بتلك القضايا، كما يفعل في المهرجانات الثقافية؟ ، بصيغة أكثر صراحة ما جدوى تلك المهرجانات إن كانت ترتكز على حضور ومشاركة النخب الثقافية فقط، وربما نسبة بسيطة جدا ممن هم خارج هذه الطبقة (الأنتليجنسيا)، ما جدوى أن تصرف الدولة أو تلك المؤسسات الثقافية ملايين الدنانير من أجل أن يجلس عدد من المثقفين (اعداد محدود حتماً) للمحاورة والمجادلة والمشاكلة بقضايا فكرية أو أدبية أو نقدية أو فنية فيما بينهم، بما يسمى نقاشات البرج العاجي فيما يعاني المجتمع العربي أو العراقي من قضايا كثيرة وأزمات عديدة، هل من الصواب أن ينشغل الأديب والمثقف بالقضايا الجمالية والفلسفية من دون الاكتراث لواقع مجتمعه؟ لماذا لا تعمل مؤسساتنا الثقافية على صياغة مهرجانات ومنتديات أدبية وثقافية تنزاح من فعلها الجمالي إلى فعلها البنائي الواقعي المشارك مع المجتمع؟
لماذا لا تكون تلك المهرجانات في الأحياء الشعبية والجامعات والمدارس بدلاً من فنادق الدرجة الأولى أو القاعات المغلقة على نفسها فكرياً ومادياً؟ ولماذا لا نعمل على ترسيخ الثقافة وتفكيك مفرداتها وإعادة صياغتها وفقاً للواقع المعاش، هل من الجدوى أن نتغنى بقصائد ومسرحيات ولوحات تتسم بطابعها الحالم والرومانسي والجمالي المترف، ونحن ننزف يوميا شتى الآلام والجروح والنكبات؟ إن على السلطة الثقافية أن يعيد النظر بكل محافله غاية في استرداد القيمة الحقيقية لكلمة الثقافة والمثقف، وإلا ستتحول هذه الثقافة هنا إلى ثقافة ميتة وسطحية لا تسهم بالبناء أبداً، الثقافة والمثقف هما الاسهام الواعي الحقيقي في ردم الهوة وانضاج تجارب المجتمع، كما حصل في فرنسا، مثلاً واغلب مدن اوروبا، خاصة ما بعد الحربين العالميتين. اليوم نعيش أزمات حقيقية يتطلب معها فكر مشارك ومثقف عضوي، ينتبه لقضايا مجتمعه، وإلا ستبقى نقطة التباعد، كما هي بين الطبقة الثقافة والمجتمع الشعبي البسيط، الذي ينظر للمثقف على أنه منعزل وغير مكترث لآلامه ومعاناته اليومية، حتى وإن كتب هذا المثقف روايات، أو قصائد، أو مقالات تسلط الضوء على المجتمع وما يكتنفه من الام.
هذا لا يعني المشاركة الفاعلة، المشاركة العضوية الفاعلة تتمثل في الاسهام الواقعي على أرض الواقع الاسهام المباشر في حلحلة قضايا المجتمع وتفكيكها والعمل على خلق مسارات موضوعية ناجعة من الممكن أن يسلكها المواطن البسيط من أبناء شعبه. على المثقف والمؤسسة الثقافية التفكير ألف مرة قبل الشروع بأية خطوة ثقافية تكتنفها صبغة التعالي والبرجوازية والانكفاء على الذات، فأي ثقافة لا يكون فيها تأثيراً على أفراد المجتمع هي ثقافة منعزلة غير مؤثرة.إن المثقفين في العديد من البلدان الأوربية كانت مشاركاتهم الفاعلة واسهاماتهم الفاعلة تتمثل في الوقوف حجر عثر أمام العقول الرجعية المتخلفة وصناع الحرب وتجاره، قادوا احتجاجات مجتمعية ومظاهرات في سبيل فضح ماكينة الموت المجاني للطغاة وإن نالوا التطريد والتشريد وحملات الاعتقالات وحرق المؤلفات، إلا أن مواقفهم سجلها التاريخ، فلم يكترثوا بما يمكن أن تسببه لهم مواقفهم السياسية والاجتماعية والوطنية إزاء مجتمعاتهم التي كانت تمر بأقسى الظروف. وما أشبه تلك الظروف القاسية بمجتمعاتنا العربية الآن والتي تمر أغلبها بحالات من الحروب والتدخلات، وفساد رجالات السياسة الحاكمين في أغلب مفاصل تلك البلدان العربية. فلا يمكن لشاعر أو فنان أن يتغنى بالجمال وبهجته وجثة جاره ساكنة ازاءه جراء الفقر والجوع وغياب العدالة الاجتماعية ونقص الخدمات الصحية وتفشي الظواهر السلبية كالتميز والمحسوبية والاقصاء وكتم الحريات وانتهاك الخصوصيات، وغيرها من المفاهيم السلبية التي تتسيد على مجتمعات العالم الثالث، أو البلدان النامية، مهما تقدمت البنى المادية والمعمارية إلا أن البنى الذاتية الإنسانيّة هم الأهم، فبناء الإنسان أكثر نجاعة من بناء الجدران.