صراعات الأجيال عملية مستمرة في ثنايا العمل الثقافي، وهي تتخذ أشكالا ودوافع متعددة، منها تأكيد الذات أو التطامن الى ما قدم ذلك الفرد ومجموعته باتجاه التغيير الذي يظن، أو سواه.
بعض التجارب تظل خافية المسعى أو الأسباب، وبعضها لاتعلن أسبابه مباشرة ولكنها تتوضح بسبب شعور صاحب الصورة السلبية أنه يضيء ويعطي على حساب خفوت لضوء شاعر أو مبدع آخر.
في زمن ما وفي التسعينات وبعد حرب بوش الاولى وانتهاء تلك المغامرة العسكرية بانهيار ما تبقى من قوة حضارية عراقية على الحياة بهدوء، لجأ الكثير من الأدباء والمفكرين والشعراء العراقيين الى منافٍ شتى للعيش والتخلص من ربقة تيارات السلب والتحشيد الجماهيري الفارغة، وكان من هؤلاء الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي الذي لجأ الى الأردن ثم رحل بعد هذا الى دمشق حتى وفاته رحمه الله.
لم تكن علاقتي بالبياتي تجري في مصب واحد، فقد كانت تترجرج على وفق ما أقف من دواوينه المتعددة.
في الستينات وفي جريدة (البلاد) وقفت عند ديوانه الشهير (عشرون قصيدة من برلين)، وأوضحت الصور النثرية الشعائرية التي في (القصائد) و (المقطعات)، وقلت إنه ديوان سريع اللمعة لاينتمي الى تجارب البياتي السالفة.
أثار ذلك غضب البياتي وأنطلق يُعرّض بي في مجالسه كعادته وأنا صامد لا أجيب، لانه لا يكتب ولم يجد من يناصره تحريرا، بل اكتفى الصديق رشدي العامل بالتعرض لي وبخلفيتي السياسية المعروفة في وقت دخلت الى العراق الاعداد التي كانت ممنوعة من مجلة (الأداب).
كان سهيل أدريس وقتها قد أثار أمام الادباء العرب قضية باسترناك صاحب الدكتور زيفاغو، وقد طرده اتحاد الكتاب السوفييت من عضويته وعرض به لوقوفه ضد تجارب الدكتاتورية الخاصة بالتنظيمات المتعددة في الاتحاد السوفياتي وسعيه من اجل حرية الفرد لا الحكم الدكتاتوري..الخ
قضية باسترناك معروفة وقد استغلها الغرب وطبعوا له اعماله الروائية والشعرية في وقت كان فيه يتلقى تعرضات اتحاد الكتاب السوفييت الذي أدان تجاربه…كما هو معروف.
تصدى الاستاذ رئيف خوري في (الآداب) لتجربة باسترناك وأدانها بوصفها خروجا على تقاليد العمل الإبداعي في الاتحاد السوفييتي وتعرض لباسترناك بوصفه منكرا لجميل الاتحاد السوفييتي وتجربته (الديمقراطية(!.
تصدى لمقالة رئيف خوري كثيرون وفي مقدمتهم عبد الله عبد الدائم وسواه وكنت ممن اجابوا بعنف على مقالة رئيف خوري واتهمته بتزييف الحقائق وتضييعها والوقوف ضد حرية العم باسترناك في تصوير الحياة الكالحة في روسيا السوفييتية!
كانت إجابة رئيف خوري لي أكثر قسوة واتهمني بتزييف الحقائق والوقوف ضد التجربة السوفييتية في العمل من اجل اوروبا الرأسمالية!
كان ردي هو الأعنف وانتهى النقاش الى هدوء، لكن ضجة البياتي ضدي كانت شديدة.. استمرت حتى تصالحنا على يد سعدي يوسف وبمقالة تعترف بشاعريته الكبيرة بالطبع.
استمرت علاقتنا طيبة وما ان يصدر ديوان له حتى أقوم بالكتابة عنه عدا بستان عائشة.. ولست أدري لماذا؟!
في المؤتمر الاول للقصة العراقية عام 78 في صلاح الدين زارنا عبد الوهاب البياتي وكان مستشارا لوزير الاعلام، وقد تعرض له الروائي عبد الستار ناصر بهجوم كاسح في جلسة عامة في الفندق الذي كنا نسكن فيه وبحضور جمهرة من النقاد والكتاب ابرزهم الدكتور الطاهر وعبد المجيد لطفي والدكتور عبد الإله أحمد الذي تدخل معي لفك الاشتباك ضد البياتي الذي أعلن عبد الستار أنه كان سببا في تأخير سجنه بعد مذكرة رفعها ضده أثر كتابته قصته الشهيرة (سيدنا الخليفة) الذي تعرض فيها الى خير الله طلفاح محافظ بغداد وابو الدولة آنذاك.
البياتي كان ينكر انه كتب أو قال شيئا وعبد الستار يهاجم بعنف حتى أخرجناه من الفندق بقوة عضلات محمد شاكر السبع واخرين .. وانا معهم بالطبع!
غادر البياتي الفندق منزعجا ليلا واستمر عمل المؤتمر في اليوم التالي.. والى مقالة أخرى عن البياتي وعبد الرزاق عبد الواحد وكاتب هذه السطور… إذ قام عبد الرزاق بتهديدي في ورقة مدونة أحتفظ بها للطرفة .. الى يومنا هذا.