المراسيم اليومية التي كنّا نعيشها نحن العراقيين ربّما تختلف عن مراسيم أيّة ثقافة أخرى، فحياتنا كانت منظّمة إلى درجة التطابق في الكثير من الأحيان، هذا التطابق الذي لم يؤدِّ إلى الرتابة، بل إلى النظام الذي شكّل بنية مجتمعنا حتَّى في التحوّلات التي كانت الحروب سبباً لها، منذ حرب الثمانينيات وما حصل في التسعينيات والحصار الذي ساهم مساهمة كبيرة في انحراف مسار حياتنا اليومية. هذا كلّه جعلنا نتحدّث عن نوستالوجيا الزمن الجميل- بعيداً عن تسمية الجميل التي تثير حولها لغطاً بشكل دائم- لكنّه جميل لأنّنا كنّا أطفالاً لا نرى سوى الحياة البسيطة بعيداً عن تعب آبائنا وأمهاتنا…
الذهاب إلى العمل صباحاً، والقيلولة عند الظهيرة، وتمشية العصاري، ومقهى ما بعد العشاء، وتفصيلات كثيرة شكّلت حياتنا السابقة، فضلاً عن فيلم ليلتي الأحد والأربعاء الأجنبي، وفيلم ظهيرة الجمعة العربي، وبرامج مثل عدسة الفن والرياضة في أسبوع والعلم للجميع، وغيرها الكثير.. غير أنَّ ما حدث بعد العام 2003، ودخول الإنترنت بشكل كبير في حياتنا، وتحوّلنا إلى الهواتف الذكية، والآيباد، والتقنيات الجديدة كلّها، جعلت حياتنا تنجرف إلى تيّارات كثيرة، لاسيّما مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت من الصديق الحقيقي صديقاً افتراضياً، ولسنا بحاجة للذهاب إلى المكتبة لشراء كتاب ورقي ما دامت الكثير من المواقع تنشر أي كتاب مجاناً، فضلاً عن المواقع الإلكترونية التي جعلتنا ننصرف عن شراء الجريدة اليومية، التي كانت تعدّ تقليداً مهماً في العائلة العراقية…
لكنّنا بعد هذه التحوّلات وارتباط حياتنا بشكل لا فكاك منه بالإنترنت وما بعد والعلاقات الجديدة التي أنشأها، لنفترض تساؤلاً: ما الذي ستفعله لو انقطع الإنترنت لمدة شهر كامل عنك؟ كيف ستعيد حياتك إلى زمن ما قبل الإنترنت؟ وما المشاريع التي كان الإنترنت سبباً لعرقلتها وتتمنى إنجازها؟
مشروعات مؤجّلة
يؤكد الدكتور خالد خليل هادي أنَه ليس بحاجة إلى التأكيد على الحضور الكثيف للإنترنت في حياة الإنسان، بمختلف توجّهاته، وهو حضورٌ طاغٍ لا يمكن تصوّر الحياة بدونه. ولن يكون مثالياً كثيراً، لكن على المستوى الشخصي في حال تعطّل الإنترنت سيحتاج ذلك منه أيّاماً لكي يتأقلم مع هذا الوضع، فمعظم عمله بوصفه تدريسيّاً في الجامعة يتطلب حضور الإنترنت.
و”لعلّي لا أبالغ إذا ما قلت إنَّ الإنترنت لم يكن حاضراً في بيتي ولدى أسرتي قبل أزمة كورونا، وكنت أتواصل مباشرة مع الأهل والأصدقاء، لكنّ حضور أزمة كورنا اضطرّني إلى الاشتراك في شبكات الإنترنت. للظروف التي عاشتها البشرية جمعاء” .
ويضيف: ولمّا كان الإنسان مجبولاً على التأقلم مع مختلف الظروف التي يعيشها، فإنَّ تعطّل الإنترنت سيوفّر لي وقتاً كبيراً للعودة من جديد إلى التواصل المباشر مع الأصدقاء والأهل. وما يشتمل عليه من حميميّة، فضلاً عن وجود عدد من المشاريع المؤجّلة، منها إكمال كتابٍ تأخّر صدوره لعامين كاملين. زِدْ على ذلك أنّ هذا الانقطاع سيوفّر لي ممارسة بعض الرياضات، وتعديل جدول النوم المضطرب، فضلاً عن توفيره وقتاً أكبر للعودة إلى القراءة الورقية التي غاب حضورها لصالح القراءة الرقمية.إنّ الابتعاد عن الإنترنت وما يرتبط به من وسائل التواصل الاجتماعي، لا شكّ في أنَّه يُسهم في تحقيق لون من ألوان التوازن في الصحّة النفسية، فمنسوب الأخبار السيّئة المرتفع يرهق الفرد كثيراً.
غياب الإنترنت سيسمح لك بمشاهدة من تريد، وتتحدّث مع من تريد وتقرأ لمن تريد، في حين حضوره سيُظهر لك كلاماً لشخصيات بسيطة ومدّعية أسهمت الميديا في انتشارها، وتقرأ أخباراً لست معنيّاً بها، وتظهر لك مقاطع ربَّما تُكدّر يومك، وتعيش في دوّامة الترند العراقي السطحي والمؤدلج، الذي تُنشئه الجيوش الإلكترونية لغايات سياسية وتسقيطيّة.لكنّني في النهاية وعلى الرغم من الذي تقدّم، أحتاجه لأكون مطّلعاً على ما يجري، فهو اختراع عظيم، يُمكن توجيهه بالطريقة التي تناسبك، وهذا هو التحدّي المهم الذي يواجه الإنسان، فكلّ اختراع يمكنك توجيهه بالطريقة التي تُريد.
انسحاب المدمن
ويرى الشاعر إبراهيم البهرزي أنَّ حالة الانهمام بالإنترنيت أصبحت تحمل أعراض الإدمان كلّه، والانقطاع الفجائي عنها سيؤدّي حتماً إلى الأعراض الانسحابية التي يعانيها المدمنون عند الاستشفاء ومنها فجوة الفراغ الروحي التي سيكون صعباً ردمها ببديل آخر أوّل الأمر، ستكون شاقّة يتخلّلها الضياع الفكري لبضعة أيّام، ثمَّ لا يلبث المرء أن يتعوّد على مشاغل بديلة أخرى.ويشير البهرزي إلى أنّه شخصياً أدرك هذا مبكّراً وتفادى حالة الإدمان المؤلمة هذه من خلال منح نفسه إجازات متقطّعة عن التواصل معه وكسر سلطة العادة بين حين وآخر والعودة إلى عادات ما قبل الانترنيت، ومنها الكتابة والقراءة الورقية، ربَّما سيبدو التعوّد عليها مرّةً أخرى صعباً أوّل الأمر، لكنَّ الأمور ستصبح مألوفة بعد بضعة أيّام من زوال حالة الانسحاب الإنترنيتية إن جازت التسمية، بل إنَّها ستحمل- فيما بعد- مسحة من النشوة تشبه تلك التي يشعر بها المغترب ساعة العودة إلى دياره.
يعرقل الانهمام بالإنترنت المشاريع كلّها التي تقتضي تخطيطاً مسبّقاً ووفرة زمنيّة بسبب طبيعته القائمة على المدوّنات السريعة الوجيزة، وبسبب تعدّد بوّاباته المطلّة على المثير والمبهر والغريب من الأشياء، وكلّها لا تبلور جهداً جادّاً لخلق مشروعات عميقة وأصيلة وتشتّت المخيّلة وتعطّل القدرة على التأمّل العميق كتلك التي توفّرها أجواء القراءة والكتابة الورقية… وإجمالاً، فإنَّ إدمان الإنترنت يضع الفرد في إطار ثقافة استهلاكية تتطلّب الهروب منها بين حين وآخر في إجازات إجبارية وحالات نقاهة يمضيها المرء في مرابع المكتبة القديمة.
استعادة الهدوء
وبحسب الكاتب والصحفي قيس حسن، فإنَّ الانترنت بات مفصلاً مهمّاً من مفاصل الحياة، وفي ذات الوقت يضعنا أمام مجريات العالم السياسية والأمنية والاجتماعية وغيرها، واختصاراً، يشبّه الإنترنت بالاختراعات التي غيّرت كثيراً من حياة البشر، مثله كمثل الكهرباء، والسيّارة، ووسط هذا الدور المفصلي والأساسي من الصعب تخيّل ما يتركه غيابه أو انقطاعه، واذا كان الحديث عن انقطاع شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية والفكرية والفنية، فهو أمر مربك حقّاً، ومن الصعب التفكير بنتائجه.
ويضيف: أشعر شخصيّاً، وكأنّي أستعيد بعضاً من الهدوء، فقد وضعنا الإنترنت عموماً وسط صخب العالم، ووسط الحروب والنزاعات، وتثيرني كثيراً تسمية الإنترنت، بـ”شبكة الإنترنت” هي فعلاً شبكة، تقدّم الغثَّ والسمين، الممتع والمؤلم، العميق والسطحي.ويطرح حسن سؤالاً: ماذا أفعل بدون انترنت؟ مجيباً: سألت نفسي كثيراً، وبصراحة لا أتردّد في القول بأنَّه سؤال مربك حقّاً، وتردّدي يكشف بشكل واضح الأثر الكبير للإنترنت، ربَّما أعيد علاقاتي بأصدقاء كثر أفتقدهم، وربَّما أخصّص ساعات أكثر لعائلتي، أمَّا المشروعات المؤجّلة، فليس هناك فعلاً ما يمكن أن أسمّيه مشروعاً مؤجّلاً. إلَّا أنّني بصراحة كنت أتمنى في زمن مضى أن أتعلّم العزف على آلة موسيقية، كان هذا حلم المراهقة والشباب، أستعيده الآن، هل يمكن أن أعود له لاحقاً. هذا ما أتمناه فعلاً.
الحزن القادم
ويبين الكاتب جواد عبد الكاظم أنَّ الإنترنت احتلَّ مساحة كبيرة في حياتنا العامة، والثقافية منها على وجه الخصوص، لما وجدنا فيه من سرعة ومساحة واسعة لما نطمح له ونرغب في الحصول عليه، و”أنا شخصيّاً أخصّص له وقتاً ليس بالقليل صباح كلّ يوم للاطلاع على أهمِّ ما في الصحف المحلّية وأخبارها ومقالاتها الأدبية، ومتابعة الجديد في عالم الإصدارات العراقية الحديثة، ومعروضات المكتبات التجارية في بغداد والمدن الأخرى، وتحميل ما أعثر عليه من الكتب التي أحتاجها لكتاباتي أو تروق لي؛ ولذا أعدّ انقطاع خدمة الإنترنت مشكلة حقيقية بعد عقدين من معرفته والالتصاق به والاستفادة الكبيرة منه.
أما عن ماذا سيفعل عبد الكاظم في حال انقطاع الإنترنت، فيؤكّد بأنّه سيشعر أولاً بالحزن والضيق الشديد، ثمَّ سيضطر مرغماً إلى ترتيب حياته وملء الفراغ الذي سيتركه بالشكل الذي يخفّف عنه هول ما وقع، ولن يجد بالتأكيد بديلاً سوى العودة لمكتبته الكبيرة، وقراءة ما لم يقرأه منها بعد، وهو كثير، وممارسة الكتابة التي شغله الإنترنت عنها، وضيّع منه الوقت الكافي لها، إذ تأخّر عدد غير قليل من مشاريع التأليف عنده بسببه، وجعلها تتأخّر منذ أشهر وبعضها من سنوات، فإن “انقطع– لا سمح الله- فلن أجد سوى العودة إليها وإنجازها بأسرع ما يمكن بعد أن غاب ما كان يجذبني ويلهيني عنها” .
السلام النفسي
من جهته، يقول الشاعر شاكر الغزي نقلاً عن المأثور: إنَّ تسعة أعشار السلامة أو العافية في اعتزال الناس، والمقصود بالناس هنا الرقعة الصغيرة المحيطة بالإنسان. الآن، اتسعت هذه الرقعة كثيراً، ولم يعد بإمكان الإنسان اعتزال الناس ليسلم؛ بل صار يحمل معه ثلاثة عوالم أو أربعة (افتراضية طبعاً) حتّى إلى غرفة نومه!.وفي رأيه الخاص، فإنَّ “أهمّ ما أفقدتنا إيّاه العوالم الافتراضية (النت) هو السلام النفسي أو الطمأنينة؛ إذ إنَّ كلَّ فرد منّا الآن يعيش رغماً عنه في حالة قلق واضطراب (وربَّما كآبة) مستمرّة بسبب الضغط الخفيّ الذي تزجّه فيه عوالم السوشيال، فما دام النت أونلاين فقلقه الإنسان أونلاين أيضاً؛ ولذلك نفكّر مراراً في قطع النتّ لأيّام أو لشهر لنحظى بشيء من راحة البال المُفتقدة.
وأحياناً، يُخيّل لي أنّ الغاية الأولى لإيجاد عالم النتّ وتوابعه، هو إدخال القلق العالميّ إلى قرارة الإنسان ليعيش مضطرباً مختلّاً!.أمّا عن مشاريعه: من المشاريع الأخرى التي عرقلها إدمان النتّ، هو القراءة! شخصياً كنت أصنّف نفسي كقارئ يوميّ شغوف، أمّا الآن فقراءاتي صارت قليلة جدّاً؛ لأنّ النت يستنزف معظم الوقت الذي كنّا نسمّيه وقت فراغ ونستغله في القراءة غالباً.كذلك، فقدتُ طقساً كنت أمارسه في العصاري، وهو التمشّي على شطّ الفرات مع بعض الأصدقاء المقرّبين للترويح والتسرّي.
متعة البحث
ويختتم السينمائي الدكتور فراس الشاروط حديثنا، مؤكّداً إن وجد انترنت أم لم يوجد، فهو لم يشكّل يوماً عنده أهمّية طاغية، فقد كيّف نفسه منذ البداية على عدم تركيز أولوياته القرائية والبحثة ومشاهداته على وجود شبكة انترنت، “ما زلت أجد متعتي في القراءة الورقية، صحيح هو أغناني في المشاهدات الفيلمية والتقارير الوثائقية، لكنّي أمتلك مكتبة وأرشيفاً كبيراً ونادراً، ومتعتي هي في التنقيب والبحث في هذه المكتبة، أيضاً ما زلت أقتني كتباً وأقراصاً فيلمية، وكأنّي في زمن غير الزمن الآني، هذا لا يعني أنَّ النت لم يقدّم لي حلولاً وأشياء سرعت في الأفكار والزمن، لكنّي لم أعول عليه كثيراً.ويضيف: لا أظن أنَّ هنالك مشروعات عندي قد تأخّرت أو تأجّل حلّها بسبب عدم وجود اتصال في شبكة النت، المكتبات الجامعية والوطنية موجودة، ولا أظنُّ أنَّ عدم وجود شبكة النت يوماً قد شكّل معضلة أو أزمة في حياتي المهنية.