انها ليست المرة الاولى التي تشهد فيها بعض مدن اقليم كردستان بشمال العراق تظاهرات جماهيرية حاشدة، تتخللها اعمال عنف، وسفك للدماء وازهاق للارواح، فخلال العقود الثلاثة المنصرمة، كان الشارع الكردي في محطات ومنعطفات عديدة، اما مسرحا لصراعات سياسية وعسكرية داخلية بين الفرقاء والخصوم، او مسرحا لجموع من ابناء الشعب تخرج رافضة ومعترضة على الواقع الذي تعيشه وترزح تحت وطأته، ومطالبة بالاصلاح والتغيير، ووضع حد لمظاهر الفساد والاستئثار والتسلط الحزبي.
التظاهرات الاخيرة في مدينة السليمانية وجزء منها في اربيل، نظمت من قبل المئات او الالاف من طلبة الجامعات والمعاهد، تنديدا بأيقاف صرف المخصصات الشهرية لهم، والتي تم قطعها منذ عام 2014 والى الان، تحت ذريعة التقشف المالي بسبب تراجع موارد الاقليم، جراء انخفاض اسعار النفط والحرب على تنظيم داعش، وموجات النزوح للاقليم من داخل العراق وخارجه، وجائحة كورونا.
بيد ان التعمق في خلفيات وجذور الازمات والمشاكل السياسية والامنية والاقتصادية في اقليم كردستان، وطبيعة تداخلاتها وتشابكاتها، يؤشر لاول وهلة الى حقيقة ان البعد السياسي في التظاهرات الطلابية الاخيرة كان حاضرا منذ البداية، وان لم يكن كذلك، فأنه دخل على الخط بعد وقت قصير، ولعل تداعيات الايام الاولى للتظاهرات اشرت الى ذلك الامر وعكسته بوضوح كبير. فقد شهدت اقدام بعض المتظاهرين على احراق مقار تابعة لجهات حزبية ومؤسسات حكومية مختلفة، وتصفيات لعناصر امنية محسوبة على شخصيات وزعامات سياسية، مثل الرئيس المشترك السابق لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني لاهور شيخ جنكي، الذي تم اقصائه قبل شهور قلائل، واستفراد بافيل الطالباني، النجل الاكبر لزعيم الحزب الراحل جلال الطالباني بمقاليد الامور، ناهيك عن المعارك الاعلامية الكلامية عبر وسائل الاعلام المرئية ومنصات التواصل الاجتماعي.
ومما لايختلف عليه اثنان، هو ان تظاهرات طلاب الجامعات في كردستان العراق، جاءت في سياق تراكم الازمات الاقتصادية الخانقة، كسبب او نتيجة، تلك الازمات التي كان من ابرز مظاهرها وتجلياتها، انقطاع رواتب الموظفين الحكوميين لاشهر طويلة خلال الاعوام الماضية، الى جانب قيام حكومة الاقليم بتطبيق سياسة الادخار الاجباري، ناهيك عن استقطاع نسب من رواتب الموظفين، وكل ذلك في اطار التدابير والاجراءات المتخذة للتغلب على الصعوبات الناجمة عن الظروف المشار اليها انفا، حتى باتت حكومة الاقليم مديونة بمبالغ طائلة للناس، كرواتب غير مدفوعة او مبالغ مستقطة من الرواتب، علما ان المواطن الكردي العادي، اصبح على قناعة تامة بأنه لن يحصل على شيء من استحقاقاته التي بذمة الحكومة، في الوقت الذي لايحصل على راتبه الشهري في موعده المحدد.
ولاشك ان تراجع وارتباك الاوضاع الاقتصادية الحياتية لطبقة الموظفين الحكوميين الذي قد يتجاوز عددهم المليون شخص من مجموع سكان الاقليم البالغ اكثر من ستة ملايين نسمة بحسب هيئة الاحصاء التابعة لوزارة التخطيط بحكومة الاقليم، انعكس سلبا على واقع الفئات والشرائح الاجتماعية الاخرى في قطاعات النشاط الخاص، كالاسواق والمطاعم والفنادق والنقل والسياحة، التي تعتمد في استمرارية عملها ونشاطها وتأمين مواردها على مقدار السيولة المالية التي يضخها العاملون في القطاع الحكومي العام.
ومع الاقرار بتأثير الحرب على داعش والانخفاض الحاد في اسعار النفط قبل عدة اعوام، وموجات النزوح لمدن الاقليم، وظهور جائحة كورونا، الا ان الانطباع العام لدى معظم سكان الاقليم، يتمثل في ان العامل الرئيسي للازمات والمشاكل الاقتصادية التي يعانونها، يتمثل في استئثار المنظومات الحزبية على جزء كبير من الموارد المالية، لتحقيق الثراء، وبناء المؤسسات السياسية والاعلامية والتجارية الخاصة، و وانعدام الشفافية في عمليات الانفاق، ناهيك عن الصراعات المحتدمة في العلن والخفاء بين تلك المنظومات، وفيما بين الاجنحة المتصارعة داخلها. ويتعزز ذلك الانطباع، من خلال التأكيد المستمر على ان الطبقة السياسية والحزبية في الخط الاول، وكذلك الخط الثاني، لم تتأثر بالمشاكل والازمات الاقتصادية، وان تأثرت فليس بالمقدار الذي لحق بالمواطن العادي.
وترى نخبا سياسية وثقافية واجتماعية كردية، ان موجات الهروب لاعداد كبيرة من الشباب والنساء والعوائل من اقليم كردستان نحو المجهول، وتعرضهم لشتى المخاطر، خير شاهد ودليل على عمق وفداحة ووطأة ما يعنيه الناس هناك، كما حصل مؤخرا على الحدود بين كل بولندا وليتوانيا من جهة، وبيلاروسيا من جهة اخرى، وكما حصل في غرق عشرات الاشخاص-واغلبهم اكراد-في بحر المانش، خلال رحلة هربهم من فرنسا الى بريطانيا بحثا عن اللجوء. علما ان الحوادث المأسوية الاخيرة لم تكن الاولى-واغلب الظن لن تكون الاخيرة-من نوعها-
البعد الاخر للتظاهرات الطلابية الاخيرة، وحتى التظاهرات السابقة لها في اواخر العام الماضي، وما قبلها، هو في واقع الامر يتمثل بالبعد السياسي الذي كان ومازال وسيبقى يلقي بظلاله الثقليلة على كل تفاصيل وزوايا المشهد الكردي العام، وبعيدا عن الازمات والمشاكل الاقتصادية-الحياتية، التي تعد وجها من الوجوه المتعددة للازمات والمشاكل السياسية، فأنه منذ تسعينيات القرن الماضي، وبعد فرض المنطقة الامنة في شمال العراق فوق خط العرض 36، بترتيب اميركي بريطاني في سياق الجهود والتحركات الدولية لمحاصرة واضعاف نظام صدام، بعد غزوه دولة الكويت في صيف عام 1990 وهزيمته فيما بعد، منذ ذلك الحين، راحت الصراعات بين الاحزاب والقوى الكردية الرئيسية، لاسيما الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الراحل جلال الطالباني، تربك الاوضاع الامنية والاقتصادية الى حد كبير، وتستنزف قدرا غير قليل من امكانيات وموارد الاقليم، وبعد ابرام اتفاقية واشنطن بين الطرفين في عام 1998، وبعد الاطاحة بنظام صدام في عام 2003، وان وضعت المواجهات والمعارك العسكرية اوزارها بينهما، الا ان التنافس على مواقع ومساحات السلطة والنفوذ اخذ اشكالا ومظاهر اخرى، وافضى الى المزيد من التشضي والتفكك والانقسام واهتزاز الثقة، حتى بين قيادات وكوادر الحزب الواحد، لتظهر المزيد من العناوين والمسميات، وتتعدد الولاءات والاصطفافات الداخلية والخارجية، خصوصا مع غياب بعض القادة المخضرمين بفعل الموت او ضف وفقدان التأثير، وكذلك الاندفاع والسعي المحموم لدى ابنائهم للاستحواذ على ميراث الاباء السياسي والمالي والاجتماعي.
وقد بدى ذلك اكثر وضوحا لدى حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، اذ لاحت بوادره الاولى في حياة الطالباني، لتزداد نوعا ما حينما كان طريح الفراش لعدة اعوام، ومن ثم لتتفجر بعد رحيله في خريف عام 2017، على العكس من الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي بقيت خلافات وصراعات اجنحته الداخلية محصورة في نطاق محدد بحكم وجود زعيمه مسعود البارزاني ونجاحه في الامساك بكل الخيوط رغم تقدمه في السن، واتساع نفوذ ابنائه وابناء اشقائه، لاسيما نجله مسرور، ونجل شقيقه وصهره نيجرفان البارزاني.
التظاهرات الطلابية الاخيرة، كانت في جانب منها ، اما بدفع من شخصيات او اجنحة وقوى سياسية، او ان الاخيرة سارعت الى الدخول فيها لاستغلالها في صراعاتها وتصفية حساباتها مع الخصوم، وهنا من المهم الاشارة الى ان هذه التظاهرات جاءت بعد فترة قصيرة من اقصاء لاهور شيخي جنكي(46 عاما)، وهو ابن شقيق جلال الطالباني، وكان يشغل في السابق منصب رئيس وكالة الامن والمعلومات في الاقليم، قبل ان يصبح رئيسا مشتركا مع بافيل الطالباني لحزب الاتحاد مطلع العام الماضي. وجاءت التظاهرات ايضا بعد بضعة اسابيع من محاولة اغتيال فاشلة تعرض لها القيادي المخضرم في الاتحاد ملا بختيار، بواسطة السم.
والملفت ان ضابطا امنيا كبيرا يدعى (العقيد مراد كاني كوردي) يعد من المقربين جدا لشيخ جنكي تم اغتياله في خضم اجواء التظاهرات الاخيرة، الامر الذي دفع الاخير الى التهديد بفتح ابواب جهنم على خصومه في قيادة الاتحاد، متهما اياهم بأستهداف وتصفيه العناصر المحسوبة عليه.
ولعل ما ظهر على السطح حتى الان، يمثل الجزء الصغير من جبل الخلافات والصراعات والمؤامرات الغاطس تحت السطح، وكما يقول الكاتب والصحفي الكردي جمال بيرة في وقت سابق، “فيما تتفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية في اقليم كردستان يوماً بعد آخر، وتسير الأوضاع فيه من سيئ إلى أسوأ، وتعصف بالإقليم أزمة مالية خانقة، أدت الى عدم قدرة حكومته على دفع رواتب الموظفين لأشهر، ومع تراكم المشاكل مع الحكومة الاتحادية في بغداد وبقائها دون حل، بل وتدهورها بين فترة واخرى، وبينما يتوغل الجيش التركي في الإقليم وتتعمق الصراعات والمشاكل في المنطقة وتتزايد احتمالات نشوب نزاعات مسلحة، يشتد الصراع بين الأحزاب الكردية المتنفذة، ذلك الصراع الذي شهد مؤخرا تغيرا في مساراته وأدواته، ما أثار قلق المواطنين، خاصة بعد أن حولت الأحزاب المتنفذة وسائل التواصل الاجتماعي إلى مساحات للفتنة والاستقطاب وساحات للتصفية السياسية ووسيلة للسب والشتم والقذف وأداة للتهديد بين أنصار الأحزاب المتصارعة”.
قد تلجأ سلطات الاقليم الى الانحناء امام عاصفة التظاهرات الطلابية، من اجل الحفاظ على وجودها ونفوذها، من خلال الاستجابة لمطاليب الطلاب بأعادة صرف مخصصاتهم الشهرية، وهو ما اعلنته الحكومة المحلية بشخص رئيسها مسرور البارزاني، بيد ان الازمة على مايبدو لن تنتهي عند هذا الحد، لانها لم تعد مرتبطة بالمخصصات حصرا، وكذلك لان الثقة باتت مفقودة تقريبا بين الحكام والمحكومين في الاقليم، ناهيك عن فقدانها فيما بين الحكام واصحاب السلطة والنفوذ انفسهم… وكل ذلك يعني ان الامور، وان هدأت لبعض الوقت، فأنه مثلما قال سياسي كردي مستقل، الهدوء الذي يسبق العاصفة، وما اكثر العواصف والزلازل والهزات في كردستان!.