ثلاث جغرافيات كبيرة تهيمن على فكر الإنسان وحياته، وعبثا يكون التفكير في تأثيرها هامشيا أو عابرا، فكل جغرافية منها لها سطوة مادية وروحية على الجميع مهما اختلفت قوميات الناس وبلدانهم وأديانهم ولغاتهم. هذه الجغرافيات هي:
1 – جغرافيا الهيمنة المادية.
2 – جغرافيا الهيمنة الروحية.
3 – جغرافيا الهيمنة الفكرية.
ونلاحظ ابتداء ان مواطن المهيمنات الثلاث، هي الأرض للمادية، والبشر للروحية، والعقل للفكرية. وهذه تتدرج بالحضور في حياتنا تبعا للقوى المهيمنة عليها والتي تسخرها بالاتجاه الذي تريده، وعبر التاريخ رأينا كيف تطورت ملكية الأرض، وكيف انحلت وتفتت بفعل الثورات، لتحل محلها الهيمنة الروحية على البشر وقد تولتها الكنيسة ورجال الدين عبر التاريخ، ثم انحلت هذه الهيمنة عندما بدأ العقل والفلسفة يأخذان دورهما الفعلي في حياة الشعوب لتحل محل المهيمنتين لاحقا مهيمنة الأفكار، وهذا المهيمنة ستتفتت أيضا بفعل تيارات مابعد الحداثة والغاء الهويات والمركزيات ليصبح العالم قرية صغيرة تهيمن عليها تقنية الاتصالات التي استوعبت المهيمنات الثلاث.
تتحدد ميادين الجغرافيا المادية للأرض بالملكيات المطلقة للأمراء والبرجوازيين والاقطاعيين، ومن يتتبع مسار هذه الجغرافيا يجدها المهيمنة الأولى منذ بدء الخرائط في تعليم وتحديد المسافات الأرضية وبيعها وشرائها وادعاء ملكيتها بانتمائية الإلهية وسلطوية، ومنها ملكيات الدولة والحكومات، وما يترتب على مالكي الأرض من سيطرة على الناس الى الحد الذي تستعبدهم فيها وتحولهم من بشر لهم حق العيش إلى كائنات يمكن بيعهم وشراؤهم مع الأرض. كانت الهيمنة على الجغرافيا المادية للبشر الشكل الثيوقرطي والرأسمالي للحكومات المستبدة، ومنذ بدء التاريخ وإلى اليوم ما تزال هذه السلطات المهيمنة تدعي انها وريثة الآلهة على الأرض، ولذلك يهيمنون ليس على الجغرافيا المادية فقط، بل الهيمنة على الغذاء والماء والهواء والمطر والأخضرار وما تنتجه المياه من خيرات والصحارى من نعم وأفضال.وتتحدد ميادين الهيمنة على الجغرافيا الروحية للبشر، بتمتين وتقوية تأثير السلطات الثيوقراطية خاصة الكنيسة في القرون الوسطى في اوروبا والكيفية التي ساقت بها شعوبها باسم الاديان لحروب طويلة قضت على الملايين، وحقيقة الأمر لا تأتي الهيمنة على الجغرافيا الروحية للبشر من دون وجود الهيمنة المادية للجغرافيا مكانا وانتاجا، ومن دون سلطة مستبدة تسند هذه الهيمنة، ولذلك كانت الكنيسة منذ العهد الروماني وحتى الثورة الفرنسية الساعد الأيمن لحكم الأمراء والنبلاء والملوك، ولم يحدث ان خسر الأمير جزءا من أرضه ولم يتأثر جسده وأسرته بهذه الخسارة، فامتلاك الجغرافيا المادية للارض هي امتداد لجسد الأمراء والملوك والسلاطين والحكم المستبدين. بحيث نجد ان الملك لير عندما وزع مملكته بين بناته اصبح جسده عاريا تتلاقفه الرياح والأمطار، ويقف على حافة الهاوية.
وتتحدد ميادين اشتغال جغرافيا الأفكار بالتشكيلات المعرفية للإنسان من تعليم وثقافة وتفكير وأساليب العيش واعتماد الفلسفة والتقنية والعقل في الكثير من أمور الحياة. وتعبر هذه المهيمنة الجغرافية للأفكار روح العصر مسندة بالشرائع والقوانين والنظم المؤسساتية للدولة والمجتمع الى الحد الذي أنشئت تيارات فلسفية وعملية جعلت من الحقوق المدينة ميدانا لتشكيلات صور المجتمعات المدينة ووضعت أسسا للديمقراطية والتعددية، وشكلت مع مجموعة من الأنظمة الوضعية قوانين العمل والحياة اليومية وتنظيمها وفق سياقات الحداثة الاجتماعية وحق التعليم والطب والعمل والتنظيم والتأسيس المعرفي، ليس من السهل ان تهيمن الدولة او مؤسساتها الحديثة على الافكار من دون أن تضع في حسابها أن هذه المهيمنة ليست ملكيات مادية وروحية بقدر ما هي طرق عملية للتنمية والثقافة والسياسة وقوانين ومؤسسات لتطوير المجتمع وتبنٍّ للفلسفات الأكثر تجريبية وانفتاحا على المستقبل.