من بين عشرات المهن والدرجات الوظيفية والدينية أيضاً، ينفرد الرسام والشاعر والروائي والفنان بعامة، بأنه الرجل الوحيد الذي يستقي مادته من الحلم، من الإنشاد الابديّ في جعل الكون أجمل وأرقى، ولا يتقاضى على ذلك راتباً، بل، وهو المحكوم عليه بالاحاسيس الشاقة الدائمة، بحسب تعبير شاعر روسيا سيرجي يسينن، وهو المعنيّ الاول بالمصائر الكبرى، التي تنتظر الانسان، وتهدد كيانه، وتحدد مستقبله.لو سألنا الشاعر السؤال التقليدي: ترى، ما الذي تبغيه في ما تقرأ وتكتب وتتأمل وتعاني؟، سيكون الجواب حُلمياً، وبلا معنى، أو غير منطقي، وبمثل الاجابة الحائرة هذه ستكون إجابة الموسيقيِّ والرسّام والكاتب وسواهم. المخلوقات الاستثنائية هذه شبه مطرودة من ملكوت السياسيّ والاقتصاديّ ورجل الدين والناس بعامة ربما، لا أحد يُنزلهم منزلتهم التي يستحقونها، ولا تعتمدهم الحكومات في مشاريعها، إلا بالقدر الذي تنتفع منه، فهم خارج اهتماماتها، مع أنهم الأصدق والأخلص، وحاملو مصابيح النور في الدروب الموحشة.
قد تخدع البعضَ صورُهم مبتسمين، ومحاطين بعناية خاصة في الصحف والمجلات، وعلى الشاشات، ويرون في ذلك ميزة وغنىً لهم، فيما هم ليسوا أكثر من مادة لتلك الوسائل، إملاء لشواغر في الورق الاشرطة، يتقاضى الاعلاميون عنها اجوراً ووجاهةً. هؤلاء الحالمون لا تدخل الوسائل تلك إلا القليل من المتع على نفوسهم، إن لم نقل تزيدهم غمّاً وقلقاً، فالقصيدة عندهم مادة في إعادة ترتيب الوجود، والفكرة اسهامة في ردم التصدع، والقطعة الموسيقية محاولة في ترميم الارواح، نعم (لديهم مهمة ممتعة) لكنها صعبة ومستحيلة، لأنهم يعملون على تحويل كل شيء الى رموز تدوم في ذاكرة الانسان، ويشعرون بالتعاسة إذا لم يفعلوا ذلك بتعبير بورخيس.
ما المعادل المادي أو المعنوي الذي كوفئَ به تولستوي عن عمله الخارق الحرب والسلام؟، وما الذي أصابَه أصحابُ الاعمال الكبيرة في الشعر والرواية والموسيقى والفنون الاخرى؟، وهل كانت جائزة نوبل مجزية عن أعمال ماركيز ويوسا ساراماغو مثلاً؟، وما الذي كانت تبغية فريدا كالو من إقامة معرضها، وهي على نقّالة المستشفى؟، أما انتهى ستيفان تسفايج منتحراً؟، وكيف لنا احصاء دقات قلب ديستوفيسكي، وهو معصوب العينين أمام فصيل الاعدام، الذي أعفي منه بأعجوبة؟، ولو تصفحنا سير حياة اقرانهم لعثرنا على المروّع والمخيف، ولهالنا حجم الحَيف الذي تعرض له اولئك الذين ذهبوا بكُليتهم الى ترويض كلِّ ما هو شرّير ووحشي في النفس الانسانية، يفعلون ذلك دونما هوادة وتوقف، ففعل مثل هذا لا ينتهي، أبداً، وليست له علاقة بساعات الوظائف التقليدية، فهم لا ينامون، إنما يعملون حتى في احلامهم، وحياتهم مليئة بالوحدة، على الرغم من أنَّهم محاطون بدائرة كبيرة من أصدقاء غير مرئيين. بتعبير بورخيس ايضا.