لم يقم أحد بالتحريض على الشاعر الكبير سعدي يوسف قبيل وفاته وبعدها كونه شيوعيا أو معاديا للشيوعيين العراقيين. كان المطلوب عدم التطرق للشيوعية. لقد ألبسوا الشاعر ثياب العدوّ انطلاقا من موقفه الرافض للاحتلالين الأميركي والإيراني والتابعين لهما. أما بالنسبة إلى الشاعر الكبير سامي مهدي فقد كان مطلوبا أن يكون البعث هو جوهر الموضوع وسبب إعلان الحرب عليه بعد موته من أجل تحريض الغوغاء ممن لم يعرفوا البعث إلا من خلال وسائل إعلام النظام الحاكم.
لا يزال قانون اجتثاث البعث ساريا وهو كما يبدو يلاحق البعثيين بعد موتهم. فهو يشمل الأحياء والأموات وبالأخص منهم المؤمنون بفكر البعث. وكان مهدي واحدا ممن آمنوا بذلك الفكر القومي التقدمي والاشتراكي. لقد أبى الرجل، وهو الذي أهدى العربية عشرين كتابا شعريا هي الأكثر إنسانية في شعرنا الحديث، أن يكون انتهازيا من أجل أن يحصل على راتبه التقاعدي وهو الذي خدم الدولة أربعين عاما فقضى العشرين سنة الأخيرة من عمره في ضنك ومات غنيا بكرامته ونزاهته التي عُرف بها طوال حياته.
كان موته مناسبة لقيام عراقيين بواحد من تمارين القسوة التي التصقت بهم منذ أن جرت الأحزاب بعد عام 1958 العراق إلى الاحتراب الداخلي. لقد وأد التحزب كل محاولة للعيش بسلام والتمتع بالخيرات ترفا ورفاهية وبذخا يضم الجميع تحت خيمة وطن واحد. لم يكن العراق صالحا للعيش إلا في ظل حكم حزب واحد. لذلك تذابحت الأحزاب وارتفع منسوب القسوة التي صارت واحدة من صفات الشخصية العراقية التي كان لزاما عليها أن تتغير وفقا للقيم السياسية السائدة.
ما حدث أن عراقيين شعروا أن موت الشاعر كان مناسبة لهجاء البعث من خلاله في موقف انتهازي تم فيه تناسي أن الميت كان شاعرا كبيرا ولم يكن رجل سياسة كبيرا، بل خدم وطنه وشعبه من موقع الصحافي المؤمن بقناعات لم يثبت الزمن أنه كان على خطأ حين تبناها. لقد أساء أولئك العراقيون إلى أنفسهم وكشفوا عن تدني أخلاقهم وشعورهم الوطني حين حاولوا الإساءة إلى الشاعر الذي لم يكن في أسوأ أحواله إلا عراقيا مخلصا لزمنه الذي هو زمن التنابذ الحزبي الذي لم يكن فيه حيز للتسامح، أما في أحسن أحواله فقد كان شاعرا وجوديا لم يسمح للسياسة بالدخول إلى عالمه الغامض المليء بالأفكار الإنسانية العظيمة.
لم يكن سامي مهدي شاعرا عقائديا. ولا شاعر مديح أو منبر. لم يكن شعره جماهيريا بالرغم من بساطته اللغوية وهي دليل عبقريته. قبل أكثر من أربعين سنة رأيته يقرأ الشعر في إحدى أماسي اتحاد الأدباء ببغداد. بعدها لم يفعل ذلك. لم يقرأ شعرا في حضرة رئيس أو وزير وكان معتدا بنفسه وبشعره وهو ما دفعه إلى نقد الشعر فألف أكثر من عشرة كتب في نقد الشعر الحديث وراجع من خلالها تاريخ الحداثة الشعرية العربية. كُتب سامي مهدي في ذلك المجال هي مرجع مهم لدراسة الشعر الحديث في العراق والعالم العربي.
أما أن يتم التركيز على أنه كان بعثيا لتُكال له الشتائم في وداعه الأخير فإن ذلك ليس سوى تكريس للدعاية الأميركية ولآلة الاحتلال الأميركي الإعلامية التي كرستها الأحزاب الحاكمة بحيث يفقد العراق فرصة تشرفه تاريخيا حين يُقال في المستقبل إن العراق ودّع واحدا من أعظم شعرائه بطريقة مبتذلة. أمر مؤسف أن يقوم العراقيون بهدر كرامتهم حين يخسرون فرصة التعبير عن علوّ ذائقتهم الشعرية وهم يودّعون شاعرا كبيرا. سيقول التاريخ إن هناك شعبا ودّع شعراءه الكبار بالشتائم. لا تنسوا أنكم قد شتمتم سعدي يوسف قبل سامي مهدي وهما شاعران مختلفان عقائديا.
“العراق يكره شعراءه” علينا أن نصدق تلك المقولة التي ينكرها العراقيون. واقعيا يمكنني القول إن بدر شاكر السياب ما كان يمكن أن يكون “السياب” الذي نعرفه لولا أن جماعة شعر في بيروت قد تبنته ونشرت قصائده. بدليل أن شاعرا عظيما بحجم حسب الشيخ جعفر لم يتعرف عليه أحد إلا بعد فوزه بجائزة عويس. لقد هُدرت مواهب شعرية كثيرة لأنها ظلت تحت المقصلة العراقية. العراقيون قساة على أنفسهم من غير حق. يمارسون القسوة باعتبارها عادة من غير أن ينتبهوا إلى أن التاريخ سيواجههم بالندم.سامي مهدي الذي شُنت الحرب الأخيرة عليه تبقى كُتبه الشعرية والنقدية شاهدا على عبقريته.