لم تعد للعراق تلك المكانة التي كان عليها لدى الولايات المتحدة منذ أن سحب الرئيس السابق باراك أوباما قواتها العسكرية في قرار مشوّش وغامض لم يؤيده قادة البنتاغون أنفسهم في حينه، ولم تغطيه عناوين الحفاظ على مكانة الجيش والاهتمام بالولايات المتحدة في الداخل وطي صفحات الحروب الخارجية، فتلك واحدة من التبريرات الإعلامية التي طالما يسوقها رؤساء البيت الأبيض للخارج لتغطية مواقفهم.لعل أوباما، حينها، لم يرغب في الكشف علانية عن مدى الإخفاق والكذب الهزيل الذي اقترفه سابقه جورج بوش الابن، في تبرير احتلال العراق بعد فضيحة أسلحة الدمار الشامل، ثم جعل العراق قاعدة لمشروع محيطه اليميني المحافظ (الشرق الأوسط الكبير)، فلا هذه ولا تلك نجحت، التورط في أفغانستان قبل العراق يؤكد تلك الأكاذيب التي يسهل تمرير حقائقها المرة لأنها تصدر عن رؤساء الولايات المتحدة.التكلفة المالية المباشرة التي صرفتها الخزانة ووزارة الدفاع الأميركية في العراق بلغت 757 مليار دولار، من غير كلف الأرواح البشرية التي بلغت 4487 جنديا أميركيا.
قرار أوباما مغادرة القوات الأميركية العراق عام 2011، ليس للحفاظ على الأموال فما صرف لا يعود. ولا يمكن لرئيس أميركي أن يغيّر قواعد الغزوات والاحتلال الأميركي لدول العالم، فإذا ما أزيح هذا العنصر الجوهري المرتبط بقوة الولايات المتحدة التي تتباهى بها أمام العالم فهذا يعني أنها لم تعد الولايات المتحدة، وهذا ما يحرص جميع الرؤساء والمسؤولين على التبجح به حاليا أمام كل من الصين وروسيا. الولايات المتحدة دون القوة خارج حدودها تتحول إلى دولة كبيرة باقتصادياتها فحسب.من هذه الزاوية العملية لا بد من النظر إلى موقع العراق لدى واشنطن، وليس من زوايا التحليلات والآراء داخل الولايات المتحدة أو خارجها. أميركا أوباما سلمت بغداد لطهران في أخزى صفقة من جانب واحد.صحيح ما قيل ويقال عن دور سياسي مشترك مع طهران في صناعة حكومات بغداد، بل انفردت بعض الأحيان مثلما حصل في ترشيح السفير الأميركي السابق خليل زاد لنوري المالكي رئيسا للوزراء من 2006 إلى 2014، وموافقة البيت الأبيض الفورية، لا شك أنه يدين له بالعرفان إن كان وفيا.
حالة التخلي الأميركي عن ذلك الدور الاحتلالي المباشر لا تعني لا بالمفهوم الأميركي ولا الدولي التخلي النهائي عن بلد كالعراق، سعت جميع دول المصالح تاريخيا لكسبه، كإيران وتركيا، حتى بعد هزيمة إمبراطوريتها عام 1918، وقبلهما جميعا بريطانيا.المحور الجديد الذي أخذت تتصرف وفقه الولايات المتحدة لعودة قواتها إلى العراق كان الحرب على الإرهاب، متمثلا بعصابات داعش بعد احتلاله الأراضي العراقية عام 2014 بتواطؤ حكومي محلي، وهو غطاء غير مقنع رغم أهميته. عادت واشنطن بقوات محسوبة لتنفيذ مهمة طرد داعش. لكن الولائيين الذين أصبحوا بعد هذا الغطاء القتالي مؤسسة يحسب لها الحساب في منافسة مكانة الجيش العراقي، رغم وقائع دعم القوات الأميركية لهم ماديا ومعنويا أنكروا ذلك، بل أنكروا حرب أبناء العراق من القوات المسلحة والمدنيين، واعتبروا أنفسهم قد حموا الشرف العراقي.
أصبحت العلاقات الحقيقية ما بين واشنطن وبغداد سياسية في الكثير من تقارير الإعلام والصحافة الأميركيتين، التي تنشر تصريحات وتعقيبات لمسؤولين أميركان، مع أن الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن هما أقل من صرحا بتفصيلات حول العلاقة مع العراق. ترامب تحدث بما يوجعه، وهو صرفه المال. الرئيس بايدن تجنب ما يحرجه بعد تماديه الكثير في الاندفاع مع طهران الملالي، لدرجة أن المساعد السابق لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر قال عنه أخيرا “لامبالاة بايدن أعطت لإيران اليد الطولى في العراق”.بعد عام 2011 لم يعد الحديث عن طبيعة علاقة واشنطن بالعراق وملفاته الشائكة التي تعتقد دوائر الخارجية الأميركية أنها قد تخلصت من وطأتها على البيت الأبيض، ممكنا دون الحديث عن إيران، الذي أخذ يتصاعد هذه الأيام ليس لرغبة أو تخطيط إستراتيجي تجاه نظام طهران الذي وصل إلى مستويات لا يمكن الصمت الأميركي أو العالمي تجاهها، من قمع للشباب الإيراني، المرأة على وجه الخصوص.
تشهد إيران هذه الأيام ثورة شعبية جدّية متواصلة، ليست عابرة يتمكن نظام القمع من تسطير تبريرات الكذب والتزوير حولها. فدماء الشباب بسبب الإعدامات الوحشية المباشرة علامة تواصل ثوري بوجه الطغاة، رجال خامنئي وحرسه الثوري الأداة الفعالة الأولى في القمع والإرهاب داخل إيران وخارجها، خصوصا في العراق، حيث تتم عمليات مراحل تأسيس الحرس الثوري العراقي.يبدو أن الضغوط الداخلية في منافسة الحزب الجمهوري للحزب الديمقراطي وجو بايدن، حيث سجل تقدما الشهر الماضي في الانتخابات النصفية العامة، كذلك الرأي العام المتمثل بمجموعة غير قليلة من المحللين في مراكز البحوث والدراسات الأميركية ذات السمعة العالمية التي تركت آثارها على بايدن وانبطاحه غير المبرر لنظام خامنئي لتوقيع الاتفاق النووي الذي لم يتحقق، قد أفلحت في دفعه للتردد وعدم الذهاب إلى ذلك المغطس الذي قد ينهي رئاسته للبيت الأبيض وتاريخه ومستقبله السياسي داخل الولايات المتحدة، إن كان يحلم بمستقبل.
فتصريحاته الشخصية المتعلقة بإيران “حمّالة أوجه”، يقول من جهة إنه لا يريد تغيير النظام القائم في طهران، لكنه يدعم الثورة الشعبية الإيرانية المسلحة، خصوصا بعد توجيه الثائرين رسالة شديدة اللهجة تطالبه بذلك.تطورات سياسية لوجستية أخرى لا يستطيع بايدن تجاهلها، مثل زيارته المهمة للشرق الأوسط والسعودية أواخر العام الماضي، حيث أوضح المسؤولون في مقدمتهم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أن دول المنطقة وفي مقدمتها السعودية لن تتعطل سياساتها وتبقى أسيرة قرار البيت الأبيض، هذا المصير أصبح جزءا من الماضي، خاصة بعد زيارة الرئيس الصيني للرياض وحضوره القمم الثلاث السعودية والخليجية والعربية. بعد ذلك كله لا نتوقع ألا يفهم الرئيس الأميركي الرسالة.
هذه الوقائع الخارجية، مهما كانت وطأتها، لا تصل إلى مستوى صعوبة ظروف الوضع الاقتصادي الأميركي، رغم المكاسب الجزئية للحزب الجمهوري في الحصول على رئاسة البرلمان بعد فوز الجمهوري كيفن مكارثي أخيرا.مثل هذه المواقف العابرة لا يمكن الاعتماد عليها كمصادر موثوقة أو قاعدة سياسية لتحول جدّي، قد يقترب من تلك السيناريوهات المتدرجة الواضحة التي عرفناها ضد العراق، مثل قانون تحرير العراق في الكونغرس الذي منح أحمد الجلبي خمسين مليون دولار لصرفها على أفراد من معارضة عراقية عميلة مصطنعة، ثم التحضير عبر مؤتمر هزيل في لندن لاحتلال العراق وإسقاط نظامه السياسي.
من المستحيل حتى على مستوى التحليلات القريبة من الخيال التي تصدر هذه الأيام عن بعض المحللين العراقيين، أو بعض التقارير الصحفية الأميركية الهامشية، إقدام الرئيس الأميركي بايدن على سيناريوهات جادة في مواجهة نظام طهران، البعض شبهها بتلك التي حصلت قبل ثلاثة عقود وأدت إلى الوضع الحالي في العراق والمنطقة. إذا افترضنا توفر الرغبة لدى الرئيس الأميركي الحالي، وهي في الواقع غير واضحة، فالإستراتيجيات تتحول إلى واقع نتيجة ظروف متشابكة عدة لا يمكن تكرارها بعد عقود.حلم جميل يرسمه بعض الكتاب والمراقبين العراقيين الذين نشاركهم تفسيرات الواقع الحالي في كلا البلدين العراق وإيران، في استسهال مهمة القضاء على الحرس الثوري الإيراني في هذه الظروف الإيرانية المعقدة. لا شك أن الدعوات العالمية لتصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية مهمة لكن الطريق طويل. مسؤولو نظام طهران اكتشفوا سر الحرس الثوري الإرهابي في سيطرته على جميع مقدرات النظام وفروعه الاقتصادية بعد الأمنية والعسكرية، لهذا وصلوا إلى مراحل متقدمة خطيرة في استنساخه في العراق.
تبقى جدلية هل ترك الأميركان العراق ليلاقي مصيره مع المحتل الإيراني دون أن يحركوا ساكنا، ما هو هذا الساكن الذي يحتفظ بايدن ولا يريد تصريفه حتى نهاية خدمته في البيت البيض عام 2024. يبدو هذا هو الخيار الأكثر واقعية.نعم، نسمع الكثير مما يقوله الرئيس أو البيت الأبيض أو الخارجية عن اهتمامهم بسلامة العراق وسيادته وأمنه. بعضهم أخذ يتحدث عن مخاطر الميليشيات الولائية ويدعو حكومة بغداد المدعومة من قبلهم إلى استبعادها، لكنه كلام إعلامي أجوف لن تكون له أرضية في الواقع السياسي إلا بعد الضغط على الحكومة والتهديد بمقاطعتها والانحياز إلى مطالب ثورة العراق الشبابية وشعبه.