قالوا إنَّ مواطنًا عراقيا اسمهُ علي هادي يزحفُ على ركبتيه في وادي طوى القانون العراقي منذُ عقدٍ من السنين. هادي الذي يسكنُ محافظة النجف التي تقعُ جنوب بغداد، مارس هذا الزحف المُقدَّس من أجل إنقاذ قطعة أرضٍ يمتلِكُها منذُ 22 عاماً. ناشِطون وفضائيات ومقاطع على السوشيال ميديا حاولوا أن يعطوا لقضيته رجلين لكن بلا فائدة؛ فالمناشير، مثل بعض أطراف هيئة النزاهة في المحافظة والعصابة البشريَّة التي استولت على أرضه في منطقة الوفاء، حرِصت على قطعِهما كلما نبتتا. الأولى طالبته بالرشوة، والثانية تُريدُ منه بيعها بأبخس ثمن.
المُضحك المُبكي في قضية هادي أنَّهُ يسكنُ محافظةً دينيَّة، تقعُ ضمن عباءة ما يُعرف بـ”المرجعية العُليا”؛ تلك التي وصلت عباءتُها إلى منطقة الجادرية في العاصمة بغداد كي تُدافع عن حقوقِ أُناسٍ في أراضٍ يمتلكونها هناك، ضد عصابات تجمعُ بين الدولة وسلاح اللادولة. سكّينة الشرف الحكومي ذبحت يومها الموضوع على قِبلة، ونثرت الفضائيات العراقية دم إجراءاتها أمام المشاهدين، واستضافت من أصابتهم ضربة حظ “المرجعية العُليا”. لا أعرِفُ إلى حدِّ هذه اللحظة لماذا قصُرت هذه العباءة التي وصلت جادرية بغداد عن وفاء النجف، ولماذا لم تُحرِّك جلطة علي هادي الدِماغية مستشفى فتاوى هذه المؤسسة الدينية.هذه البدعة البريطانية الكافِرة التي ما زال نِظام العراق الإسلامي عامِلاً بها تمنحُ السُلطات في الدولة العراقيَّة قُدرة شبه مُقدَّسة على التوثيق القانوني ما دامت هي أكبر مالك ومانح للأراضي
علي هادي، بالإضافة إلى الوثائق التي يمتلِكُها، لديه سندُ تمليكٍ بهذهِ الأرض. لكن كما يبدو فإنَّ إجراءات القانون العراقي لم توفِّر لهُ إلى حدِّ الآن سوى مياه دجلة والفرات كي يُغمِّس فيها تلك الوثيقة، ويشربها شايًا وقهوة مع من حكى ومازال يحكي لهم قصة أرضه وتهتُّك العِرض الحكومي الذي يسكنُ المنطقة الخضراء.
استدعيتُ بسبب علي هادي سامحهُ الله على مطالبتِه بحقَّه أحد المُشرِّعين الدستوريين لحق الاقتراع العام “الانتخابات” زمن الثورة الفرنسيَّة. حضر كوندورسيه فورا من كتاب “انتصار المواطن” الذي كتبهُ بيار روزانفالان. بعد طرحي قضيَّة علي هادي عليه أخبرني بأنَّ قضية هادي خاسِرة لأنه غيرُ عراقي!
نظرتُ إليه شذرًا فأوحى لي بنظراته أن أصبِر قليلاً، وقدَّم الحُجَّة التي سأذكرُها بتصرّف “قُلت سابقاً قبل 250 سنة تقريبًا بأنَّ الفرنسيين الذين لا يمتلِكون أرضا في بلادِنا لا يحِقُّ لهم التصويت إذ كيف نضمنُ تصويتهم لصالِح فرنسا. وبناءً على ما طرحتهُ آنذاك كيف لي أن أعتبر مسيو هادي عراقيّا ما دام يمتلِكُ أرضا لا يمتلِكُها؟”.
صعَّرتُ خدي وشمختُ بأنفي بعيدا عن هذا البلّوط البشري وقُلت في سرّي “فرنسي ولا عتب عليك”. تلقفني الأميركي من أصلٍ لبناني حنا بطاطو، صاحب الثُلاثية المشهورة عن العراق، وقال لي بأن هذا البلّوط كان جافاً في التوضيح. ذَكَرَ لي أنَّهُ التقى في الجزء الأول من الثُلاثية بشرطيٍ عراقي من أهالي ميسان، كَفَرَ بالعباد والبلاد لأنهُ لا يمتلِكُ شِبرًا فيها.
بعيدا عن هذه اللقاءات المُحبِطة، هناك مشكلة أُخرى تتعلَّق بالأراضي العراقيَّة وهي تاريخيَّة أيضا، تحدَّث عنها الدكتور فاضل الربيعي في أحد كُتُبِه، ألا وهي قوانين “تسوية الأراضي” البريطانية التي تُتيح وباختصار أخذ الأرض من الشيوخ المُعارضين لهم وإعطائها للشيوخ “المُتبرطنين”. بعد 2003 أُعيد العمل بروحها تحت يافطة “هيئة نزاعات الملكية”، وبفضلِ هذه اللوحة الإعلانية أصبحت معظم رؤوس النظام الجديد مالكة لمناطق وعقارات مُعتبرة في العاصمة بغداد، بعد أن جُرِّدت من أصحابها بحجَّة الانتماء إلى النظام السابق.
رئيس الحكومة محمد شياع السوداني الذي قرر أن يلعب دور شهرزاد في إرجاع ثقة العباد بحكومة البلاد قد لا يستطيع ضرب رأس حكومته بحيطان الفساد أمامه وبالأحزاب التي وراءه
هذه البدعة البريطانية الكافِرة، التي ما زال نِظام العراق الإسلامي عامِلاً بها، تمنحُ السُلطات البيروقراطية في الدولة العراقيَّة قُدرة شبه مُقدَّسة على التوثيق القانوني، ما دامت هي أكبر مالك ومانح للأراضي في نفس الوقت، وبسبب حالات التهجير والقتل على الهوية الطائفية التي سادت العراق بعد 2003، فإنَّ أضابير الأراضي المملوكة لكثيرٍ من المواطنين مُحيت منها أسماؤهم وكُتِبت أُخرى بحبر الحزب والطائفة أو اختفت. وثيقة التملُّك، أو ما يُعرف عراقيًّا بـ”الطابو”، تشبهُ هنا خاتم زواج يرتديه اثنان ضُبِطا على السرير في فُندُق بدون عقدِ زواجِهما، في عالمٍ بيروقراطي تُسيطر عليه الأحزاب وأُمراء الطوائف بديلاً عن الدولة. كما أن تطبيق القانون العراقي وحتّى بعد إثبات الحق لأحد الخصوم، يحتاجُ سنينًا كي يعود إلى صاحِبه وقد لا يعود إن كان الخصمُ حزبًا أو زعيم طائفة يلبس عباءة حزبيَّة؛ بل قد يقتل كما حصل لأحد العراقيين الحاصلين على الجنسية السويدية، بعد أن فاز بحكمٍ يُلزم إحدى شركات تحويل الأموال بإرجاع نقوده التي أودعها لديها، لتقوم بتحويلها إلى هذا البلد الإسكندنافي الذي يقطنُ فيه. لم يتم العثور إلى الآن على القاتل أو القتلة أو معرفة من هم.
الحكومة العراقية الحالية ومنذُ أيامها الأولى في الخضراء جعلت من الشعب شهريار، حكت له ومازالت تحكي قصصا عن نيَّتِها بمكافحة الفساد، لكن بعد كُلِّ ليلة كانت تذبحُ ثقة واحدٍ منّا ديكًا. مرَّة تُفرِج عن السيد نور زهير بطل قضية “فساد القرن”، وعن رئيس عصابة بطاقات “الكي كارد” في مديرية التقاعد العامَّة في الثانية، وعن لصوص مصفى بيجي في الثالثة، وهكذا دواليك.رئيس الحكومة محمد شياع السوداني الذي قرر أن يلعب دور شهرزاد في إرجاع ثقة العباد بحكومة البلاد قد لا يستطيع ضرب رأس حكومته بحيطان الفساد أمامه وبالأحزاب التي وراءه، لكن قضية علي هادي البسيطة رغم عدم امتلاكِها “عباءة عُليا” منسوجة في الجادرية فُرصة لا تعوّض؛ كي تُثبِت الحكومة أن مصفى الثقة بها غير مثقوب، وأن تطبيقها القانون لا يحتاج “كي كارد” المرجعيات الدينية الذي لا يعمل كما يبدو إلَّا في المناطق الثريَّة من العاصمة بغداد، وأنَّها لا تُفكِّرُ في افتتاح جامعة تُدرِّس العراقيين مناهج علي بابا في القضاء على كهرمانة وزيادة الأربعين حرامي.