عام 2020 شهدت الولايات المتحدة احتجاجات شعبية ضخمة بعد مقتل جورج فلويد على أيدي الشرطة. وفلويد مواطن أميركي من أصول أفريقية فقد حياته نتيجة سوء معاملة أربعة من أفراد الشرطة.قبل أشهر قتل ضابط شرطة فرنسي أحد مراهقي الضواحي (من أصل جزائري) لا لذنب مؤكد بل لأن الفتى لم يستجب لأوامر ذلك الشرطي. شهدت باريس يومها أعمال عنف وتدمير لممتلكات خاصة وعامة احتجاجا على ذلك القتل المجاني الذي يعتقد المحتجون أنه سلوك ممنهج.في الحالين اقتيد المسؤولون عن الحادثتين إلى القضاء وأدينوا غير أن أحدا في الدولتين لم يتوجه باللوم إلى الشرطة أو يشجب سلوكها في ممارسة العنف المفرط الذي وصل إلى درجة القتل العلني.
في الدول التي تخضع لسلطة القانون تمثل الشرطة قوة ذلك القانون. وجود شرطة قوية هو من جهة عنوان للأمن ومن جهة أخرى فإنه يفرض هيبة الدولة باعتبارها الطرف الوحيد الذي يحق له ممارسة القمع في حدود فرض القانون.
في الماضي كنا نقرأ لافتات في شوارع بغداد كُتب عليها شعار “الشرطة في خدمة الشعب”. كان الشرطي يومها مُهابا. وبغض النظر عما قاله الساخر برنارد شو فإن “أبا إسماعيل”، وكانت تلك كنية الشرطي، يحظى باحترام المجتمع، لا خوفا منه بل تقديرا لما يقوم به من خدمات تحفظ أمنه وسلامته.
ما حدث في بغداد قبل أيام يكشف أن الدولة في حالة انهيار تام وأن القيم المجتمعية هي الأخرى قد انهارت وأن المجتمع لم يعد يشعر أن هناك طرفا قويا يحميه.الحكاية ببساطة تقول إن ضابطا في شرطة المرور برتبة رائد “ثمانية نجوم على كتفيه” عثر على سيارة من غير أرقام واقفة في مكان غير قانوني وتعيق السير. أمر بسحبها بعد أن انتظر عودة سائقها من غير جدوى. وبعد زمن طويل تبين أن امرأة هي مَن أوقفت السيارة في ذلك المكان. حين عثرت تلك المرأة على الضابط الذي أمر بسحب سيارتها توجهت إليه بالشتائم البذيئة وضربته بحذائها المنزلي (نعل). لم يفعل الضابط شيئا سوى أنه اقتادها ورفيقتها إلى مركز للشرطة. وهناك اتصلت بصديق لها وهو عضو في مجلس النواب الذي حضر إلى المركز وأجبر الضابط على سحب شكواه والتراضي.
تلك حكاية يمكن أن تقع في العراق كل يوم لولا أن حادثة الضرب بالنعل كانت قد صُورت من قبل أحدهم ووجدت طريقها إلى وسائل الاتصال الاجتماعي مما أدى إلى أن تأخذ الفضيحة حجمها الطبيعي. وهنا تدخل وزير الداخلية وهو المعني بالأمر من أجل ألا يأخذ النعل طريقه إلى مستويات أعلى.المشهد صادم فعلا، بل أنه ينطوي على فجيعة.
شيء ما حل بالعراق أكبر حتى من احتلاله وانتهاك سيادته وإسقاط نظامه السياسي وحل جيشه. شيء أشد عصفا من القصف الأميركي وزحف الميليشيات الإيرانية وهيمنة إرهابيي داعش على أجزاء كبيرة من العراق. شيء يتعلق بالمجتمع، ببنيته الأخلاقية وقيمه وتقاليده وأولوياته وطريقة عمله وتسلسل المسؤوليات فيه.
لقد كشف ما حدث أن شيئا جوهريا من الأخلاق ضاع مع ضياع الدولة، فالفاسدون ونموذجهم في الحدث ذلك النائب الذي أعار سيارته من غير أرقام لصديقته وحضر إلى مركز الشرطة لإنقاذها لم يفتكوا بالدولة وحدها، بل وأيضا بالمجتمع الذي صار بمثابة مختبر لسقوطهم الأخلاقي.
ضربت تلك المرأة المستهترة الضابط بنجومه الثمانية بنعلها، غير أنها في الحقيقة ضربت بذلك النعل الدولة والمجتمع معا وهي على يقين من أن أحدا لن يمس شعرة في رأسها.مثل النائب في الحادثة نموذجا لسياسيي الأحزاب الحاكمة وهو عضو في الائتلاف الذي يقوده نوري المالكي. لم تكن الدولة حاضرة في ذهنه في كل حلقات ما جرى. بدءا من إعارته لسيارة من غير أرقام وانتهاء بذهابه إلى مركز الشرطة لكي يضع القانون على الرف قبل أن يعرف أن الحادثة قد صُورت وجرى تداولها من قبل الملايين من العراقيين الذين اكتشفوا للمرة المليون أن دولتهم يمكن أن تُضرب بحذاء منزلي نسوي.وبغض النظر عما سيتم اتخاذه من إجراءات قانونية بحق السيدة المعتدية فإن ما حدث سيلقي بظلال كئيبة على المجتمع العراقي المغيب أصلا كما أنه سيضع فرقاء العملية السياسية في مواجهة فشل، كان عليهم أن يحتاطوا منه، ذلك لأنه لا يتعلق بمصيرهم السياسي فحسب، بل وأيضا بسمعتهم الشخصية التي طالما اعتقدوا أنهم يحافظون عليها عن طريق الأموال.