ليس الشعب الفلسطيني “شعبا وهميا”، على حد تعبير وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش في ظهور له في ندوة انعقدت في باريس أخيرا. أساء الوزير الإسرائيلي إلى الأردن في الوقت ذاته مثيرا ردود فعل قويّة من المملكة الهاشميّة التي بدأت تسأل عن جدوى اتفاق السلام الموقع بين البلدين في العام 1994.
الشعب الفلسطيني موجود أكثر من أيّ وقت على أرض فلسطين منذ قيام دولة إسرائيل في العام 1948. واهم من يعتبر الشعب الفلسطيني “شعبا وهميا”، لا لشيء سوى لأن إسرائيل وجدت نفسها في مرحلة معيّنة مضطرة إلى توقيع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض. الطرف الآخر في الاتفاق منظمة التحرير الفلسطينية التي تعني، بين ما تعنيه، وجود ممثل للشعب الفلسطيني الذي يسعى إلى التحرر واستعادة حقوقه المشروعة.
هناك، من دون أدنى شكّ، مآخذ كثيرة على ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني. ارتكب “أبوعمّار” أخطاء فظيعة في الأردن ولبنان ثم بعد الاحتلال العراقي للكويت في العام 1990. لكنّ ذلك كلّه لا يحول دون الاعتراف بأن “أبوعمّار” استطاع تكريس وجود هوية فلسطينيّة لشعب تحدّى الاحتلال ولا يزال يتحداه يوميا. الشعب الفلسطيني باق. من سيرحل عاجلا أم آجلا، هو سموتريتش الذي لا علاقة له لا بالسياسة ولا مع ما يدور على أرض الواقع. ما لم يستوعبه من هم من أمثال وزير المال الإسرائيلي أنّ العيش في الخرافات شيء وما يدور على أرض فلسطين شيء آخر.
لم تستطع إسرائيل التخلّص من الشعب الفلسطيني. فعلت كلّ ما تستطيع من أجل تحقيق هذا الغرض. أكثر من ذلك، تحوّلت مشكلة إسرائيل، مع مرور الزمن، إلى مشكلة مع نفسها قبل أن تكون مع الفلسطينيين. باتت مشكلة إسرائيل مع بنيامين نتنياهو الذي يشغله مستقبله السياسي من جهة والرغبة في تفادي السجن من جهة أخرى. لا يشغل بال “بيبي” مستقبل إسرائيل في المنطقة والفرص التي تضيعها في الوقت الحاضر، كي تكون دولة من دول الشرق الأوسط. يفعل الرجل كلّ ما يفعله من أجل تفادي المثول أمام إحدى المحاكم بعدما وُجّهت إليه تهم متعلّقة بالفساد.
لا شكّ أنّ “بيبي” يتذكر يوميا صورة لسفه إيهود أولمرت خلف قضبان السجن. دخل أولمرت السجن بعدما تبيّن أنّه كان مرتشيا. يبدو “بيبي” مستعدا لأن يكون تحت رحمة وزراء مثل سموتريتش أو إيتمار بن غفير، بدل أن يكون تحت رحمة القضاء والعدالة. لن يأخذه هذا الموقف إلى أيّ مكان باستثناء اليوم الذي سيكون عليه مواجهة الحقيقة التي يهرب منها باستمرار. إنّها حقيقة وجود الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين.
سيكون هناك مكان للشعب الفلسطيني على أرض فلسطين يوما. يعود ذلك إلى سبب في غاية البساطة. إنّه شعب موجود ولا يحتاج إلى شهادة من متطرف إسرائيلي أسير أمراض يعاني منها متطرفو المنطقة من أمثال المنتمين إلى “داعش” أو الميليشيات المذهبيّة التابعة لإيران. تختزل الواقع القائم عبارة غالبا ما استخدمها ياسر عرفات. كان “أبوعمار” يقول إن الشعب الفلسطيني بات موجودا على الخريطة السياسيّة للمنطقة. لا بدّ أن يأتي يوم يستطيع فيه أن يكون على الخريطة الجغرافيّة للشرق الأوسط.
ثمة سؤال بديهي لن يستطيع سموتريتش تجاهله يوما. ما العمل بما بين سبعة وثمانية ملايين فلسطيني يقيمون بين البحر المتوسط ونهر الأردن؟ هل تستطيع إسرائيل إذابة هؤلاء بين ليلة وضحاها؟يكشف كلام وزير المال الإسرائيلي عمق الأزمة الداخلية الإسرائيلية. أخطر ما في الأزمة وجود انقسام داخلي عمودي. بات في الإمكان، في ضوء مخاوف رئيس الدولة إسحق هرتسوغ من “حرب أهليّة”، الحديث عن شعبين إسرائيليين لا علاقة لأيّ منهما بالآخر. هناك شعب المتدينين وهناك شعب اليهود الطبيعيين الذين جعلوا من تل أبيب مدينة مزدهرة وجعلوا من إسرائيل ومن اقتصادها، خصوصا في كلّ ما له علاقة بالتكنولوجيا الحديثة، قصة نجاح تترجمها لغة الأرقام. اللغة التي لا تخطئ.
يبقى أهمّ من ذلك كلّه وأهمّ من التمرد داخل المؤسسة العسكريّة الإسرائيلية أنّ حكومة نتنياهو جعلت كلّ دول المنطقة، في مقدمها الأردن، تتخذ موقفا حذرا من الدولة العبريّة ومن إقامة علاقات طبيعية معها. فوق ذلك، بدأت تطرح تساؤلات في شأن العلاقة بين إسرائيل والإدارة الأميركية التي لا تبدو راضية عن توجهات حكومة “بيبي” العاجزة عن إيجاد لحمة داخليّة. ما هذه الحكومة التي تريد تحويل السلطة القضائيّة إلى تابع لها؟ ما هذه الحكومة التي يتحكّم بها المستوطنون والتي تعتقد أنّ في استطاعتها اتخاذ إجراءات تضرب عرض الحائط بكلّ ما بقي من اتفاق أوسلو، علما أنّه بقي منه قليل القليل؟ ما هذه الحكومة التي تريد تحدي البرنامج النووي الإيراني، فيما تقطع الطريق على أيّ علاقات طبيعية مع دول الجوار؟
ليس معروفا في نهاية المطاف، هل إسرائيل، بقيادة بنيامين نتنياهو مهتمّة فعلا بمواجهة “الخطر الإيراني” أم لا. يكشف كلام من النوع الذي صدر عن سموتريتش جهلا ليس بعده جهل في ما يدور على ثلاثة مستويات. المستوى الإسرائيلي الداخلي والعلاقة بالفلسطينيين الذين لا يمكن إلغاؤهم كشعب موجود على أرض فلسطين. والمستوى الإقليمي الذي لا يشمل اتفاق السلام مع الأردن فحسب، بل ما هو أبعد من ذلك بكثير، أي اتفاقات أبراهام مع دول مثل الإمارات والبحرين والسودان والمغرب أيضا. المستوى المتعلّق بالعلاقة مع الولايات المتحدة والتنسيق العسكري والسياسي معها في ما يخصّ إيران وطموحاتها الإقليميّة.
تبدو تصرفات حكومة “بيبي” عجيبة غريبة. تطرح في الواقع تساؤلات في شأن ما إذا كانت هذه الحكومة عدوا لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” أم حليفة لها من تحت الطاولة. كلّ ما فعله وزير المال الإسرائيلي، أقلّه إلى الآن، يصب في خدمة المشروع التوسعي الإيراني لا أكثر ولا أقلّ. من في المنطقة يستطيع وضع يده بيد إسرائيل بعد الآن؟