في البداية لابد من توضيح بسيط دأبت عليه الأدبيات النقدية في الكتابة عن الحداثة وعن التحديث، فالفرق كبير بين الحداثة التي تعني تطويرالقدرات المحلية وجعلها قائدة لعملية الحداثة في المجتمع، وبين التحديث وهي عملية شراء الآلية التقنية الحداثية دون تطوير الكوادر والمتخصصين، الحداثة تعني صقل العقول والبحث عن المواهب وإرساء قاعدة علمية واسعة لبناء المجتمع، بينما التحديث هو مجرد شراء مواد حديثة بالنقد المتوفر من بيع النفط للبناء، وتبقي على العاملين في البلد مجرد أدوات للتنفيذ. هذا الفرق يجعلنا نفكر بالبدايات التي اهتمت بالحداثة، ثم ما جرى لها من طمس خطواتها الأولى والسعي لاستبدالها بالتحديث وهو ما نسير عليه منذ شباط 1963 وحتى الوقت الحاضر. ما الذي يمنعنا من أن نفكر لتطور الحداثة في مجتمعاتنا، بمفردات الفلسفة الغربية مثلا، بعد أن ربطت أوليات وأخريات الفلسفة العربية الإسلامية بالدين وبحواشيه الاجتهادية، دون العلمية؟ أقول ماالذي يمنع مفكرينا وجامعاتنا من أن تفكر بـ” كانط” وديكارت وسبينوزا، و”سؤال الانوار”، وماالذي يمنع من التفكيربـ “هيجل” وتقنيات الروح، ومع “ماركس” وتطوير الإنتاج وآلية بناء مجتمع الحداثة؟ لاشك أن تفكيرا مثل هذا لن يجد صداه على مستويات الدولة ومؤسسات الجامعة المختلفة، ولكننا لم نخض فيها، حتى يتبين مدى العلاقة بين متطلبات الحداثة عندنا ومتطلبات الواقع الإجتماعي. ربما علينا أن نعود الآن إلى ثلاث مراحل مهمة، مرت على بنية المجتمعات العربية، ومهدت لاوليات النهضة التحديثية وهي : حركة النهضة وبداية التحديث في أوليات القرن العشرين. والثورات التحررية في الوطن العربي في منتصف القرن العشرين، والمرحلة التي أعقبت نكسة حزيران 1967. ثم الانتكاسة التي اعقبت ذلك كله.سنجد انفسنا في سؤال كبير، أن أوليات النهضة حدثت على مستوى مفكرين تأثروا بالغرب، وخاصة الثورة الفرنسية، محمد عبدة، ومن ثم الطهطاوي ومن ثم الرعيل الذي لحق بهما شبلي الشميل والبستاني وسلامة موسى وغيرهم ، لم يكن لها جمهور شعبي يؤيدها. هذه الحركة لم تكن حركة جماهيرية، لكنها فتحت المجال أمام حركة اجتماعية سياسية تستمد بعض حروفها الفكرية من ثورة اكتوبرالاشتراكية1917، ثم ظهرت بوادر الحداثة في الفترة التي أعقبت هزيمة الفاشية عام 1945. وانتصار الديمقراطية الغربية في الحرب العالمية الثانية، وما صاحبها من المد الثوري الشعبي فتأسست أحزاب تقدمية ولو أن ارضيتها صغيرة ومن بين الشباب والمثقفين، إلا انها كانت البداية لوجود وعي اجتماعي بالتغيير ليسند عمليًا التطور التقني الذي بدا في عدد من البلدان العربية، خاصة في مجالي الثروة النفطية والصناعات المحلية، مصاحبة بظهور احزاب تقدمية أكثر نشاطًا وقوة، لتبدأ المرحلة الثانية مرحلة الثورات الوطنية ضد الانظمة الملكية، التي كانت تمثل الحلقة المتصلة مع دوائر الاستعمار، فاعتبرت حركات التحرر ضد هذه الانظمة ثورات حداثية، ولكن الحقيقة كان ثمة استعجال في فهم المراحل، خاصة في مصر وسوريا والعراق، وهي البلدان الأكثر حراكا في كل أوليات النهضة وبدايات الحركة الثورية. ادى الاستعجال لعدم الفرز بين ما هو وطني معاصر وما تاريخي ديني وقومي.لتأتي هزيمة 1967 وتقضي على كل أمل بالحداثة، والنهوض الثقافي والفكري الذي اعقب الهزيمة كان نهوضا فرديا، سرعان ما استوعبته الرجعية العربية بمداخيلها المالية لتقضي عليه بجوائزها ودوائرها البحثية. حركة الضباط الأحرار في مصر لم تكن هي نقية من زعامة ذاتية في بعدها القومي والديني، ولكنها أسست لقاعدة شعبية ثورية، فجماهير مصر عام 1952، وجماهير العراق عام 1958، هي المعنية أكثر من غيرها بحركات التحرر وبناء مجتمع الحداثة، ولكن هذا الوعي لم يؤسس له قاعدة تقنية ك من قبل قيادات حركة التحررالوطني، فجيروا خطاب الحداثة الشعبوي لمصالحهم الخاصة ولفئات لم يكن مشروع الحداثة ضمن تفكيرهم، ولا ننسى دور الدوائر الاستعمارية في إجهاض كل تصور للحداثة. فتركوا خطابهم الثقافي والتنويري عرضة للتبدلات وللارتباط بحلقات الكثير منها يتناغم مع الرأسمالية ودوائر الشركات المستغلة. لتأتي حركة شباط 1963 في العراق، لتعيد العراق إلى نقطة البداية عندما ربطت الحداثة بالحزب وليس بالمجتمع، وبدليل ما ان انهار الحكم عام 2003، حتى تفلشت كل الخطوات التي نشأت لصالح مجتمع الحداثة.