آخر تحديث:
برهان شاوي
في مقدمته العميقة والجريئة والمخاتلة (وربما سأعود في خاطرة أخرى إلى هذه المقدمة لأبيّنَ لماذا وصفتها بالمخاتلة) للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر بدر شاكر السيّاب بتحقق الشاعر علي محمود خضير يقول أدونيس عن السيّاب: «يظل شاعرًا مؤسسا. بلى أزعم أن في تراب السيّاب، ذهباً فريدا مشعا وخلاقا». ولا أعتقد ثمة من يخالف هذا الرأي عن السيّاب. فهو شاعر رائد ومؤسس للقصيدة العربية الحديثة. ريادته واضحة ولا جدال فيها في بناء الجسر الرصين والصلد والتاريخي ما بين القصيدة العمودية الكلاسيكية وبين القصيدة الحديثة سواء قصيدة التفعيلة أو القصيدة الحرة المنفلتة من إيقاعات البحور والتفعيلة. لكن لو بحثنا عن تأثيرات تقنيات السيّاب الشعرية وجماليات قصيدته وقاموسه الشعري على الشعراء سواء من مجايليه أو شعراء الخمسينات والستينات وما بعدها، فلن نجد ذلك واضحًا ويمكن رصده مثلما نجده عند سعدي يوسف، بل إن سعدي يوسف نفسه لا ينكر ذلك بل ويعتز به. وقد أخبرته ذات لقاء برأيي هذا ففرح به فهو يحب السيّاب جدًا ويعتز بأنه كان المسؤول عنه حزبيّا وهو من قرأ قصائده الأولى وتعلّم منه كثيرًا.لو أحصينا المفردات الشعرية لديهما لوجدنا الكثير من المشتركات اللغوية، بل حتى أجواء الكثير من القصائد تتشابه. وهذا نجده في قصائد مجاميع سعدي: (قصائد مرئية)، (بعيدًا عن السماء الأولى)، (نهايات الشمال الأفريقي) وصولا إلى (الأخضر بن يوسف ومشاغله).سعدي يوسف واصل تطوير تجربة القصيدة السيّابيَّة، لكنه كان قريبا من الفضاءات الشعرية للسيّاب في حلّه وترحاله. في قصيدة السيّاب (غريبٌ على الخليج) نقرأ:
تحت الشموس الأجنبيّة،
متخافق الأطمار، أبسُطُ بالسؤال يدًا نديّة
صفراءَ، من ذُلّ وحمى: ذلِّ شحاذٍ غريبِ
بين العيون الأجنبيّة،
بين احتقارٍ. وانتهارٍ، وازورارٍ.. أو خطيّه
والموتُ أهون من “خطيَّه».
بينما نقرأ لسعدي يوسف في قصيدة “نهايات الشمال الأفريقي” مشهدًا يتناص مع غربة السياب، إذ يقول:
وفي أسواق بلعبّاسَ،
في وسط المدينةَ،
في المقاهي حيث لا تتركز القهوةْ
وفي البارات إذ تتأخر الساعة
ستسمع همسة “دخل المهاجر»
ثم لا تتأخر الساعة،
وتبقى قطرة البيرة
بحلقي شوكة،
وتدق في سوق الهنود، وفي دمي، ساعة.
كم كان السيّاب وقصيدة (غريب على الخليج) تتوهّج في روح سعدي يوسف آنذاك، بل في أغلب قصائد سعدي التي كتبها في الغربة والمنفى نسمع أصداء السيّاب. ويمكن المقاربة بين قصائد عديدة أو أبيات وصور شعريّة فيها تأثير أو تناصات السيّاب.
ويمكن القول إن تأثير وحضور السيّاب وصوره الشعرية وعالمه الريفي واضح في نصوص سعدي ومجاميعه الأولى. ويمكن القول بأن قصيدة السياب الخالدة (النهر والموت)، بل وقصائده مثل: (أفياء جيكور)، (صياح البط البري)، (دار جدي)، (جيكور وأشجار المدينة)، (أسير القراصنة)، وغيرها من القصائد.
وحين أتحدث هنا عن تناصات وتأثيرات السيّاب على سعدي وتجربته الشعرية لا أنكر حق سعدي في تطوير القصيدة الحديثة، بل سعدي مضى بعيدًا في تطوير تقنيات قصيدة التفعيلة وإيقاعاتها التي ابتعدت عن الايقاعات القوية الصاخبة في قصائد السيّاب، بل منح القصيدة الحديثة (نبرة خافتة) بتعبير الكاتبة والناقدة (فاطمة المحسن).
الطبيعة وعالم النخل والبصرة وجيكور وأبو الخصيب يتقاربان جدًا في التجربتين المتميزتين في الشعر الحديث. لنقرأ هذا المقطع من قصيدة (جزيرة الصقر) من مجموعته (بعيدًا عن السماء الأولى) لسعدي:
يحجبها سقفٌ من النخل فلا نعرف ما فيها
ويأكل النورسُ والبطُ الشريدان أغانيها
وحينما يُزهر عند الساحل النورُ
تطلُّ في الظلمة، في ظلمتها الخضراء، مهجورة
كأنها قصرٌ وراء النهر مسحورُ
أو مركب غاص إلى القاع، وأبقى راية سوداء، مقرورة.
وفي ضباب الفجر يبدو الماءُ والطينُ
ذوبًا، هو القهوة والنارنجُ والتينُ
والنخلُ أشباحًا، وسقف النخل أشراكا
وبغتةً
فتحّتِ للعالم شباكا.
بينما نقرأ للسياب في قصيدة (صياح البط البري) عالما مقاربا:
وذرّى سكونَ الصباح الطويلْ
هتافٌ من الديك لا يصدأُ
وهزَّ الصّدى سعفات النخيلْ
وأشرق شباكنا المطفأُ.
وفي قصيدة (أفياء جيكور) نقرأ:
نافورةٌ من ظلالٍ، من أزاهير
ومن عصافير..
جيكورُ، جيكورُ، يا حقلًا من النور
***
ظلٌ من النخل، أفياء من الشجر
أندى من السَّحر
في شاطئ نام فيه الماء والسُّحبُ.
بل مفردات النخيل والطين والنور من خلال السعفات الطوال تتكرر في شعر سعدي حتى في قصائد الكبيرة مثل (عبور الوادي الكبير) في مجموعته (الأخضر بن يوسف ومشاغله). مثلما يمكن التوقف عند معظم قصائد (نهايات الشمال الأفريقي) و(بعيدًا عن السماء الأولى). والحقيقة تقال، إنّ هناك بابا في الشعر العربي يسمّى الهجاء وهناك ما تُسمّى بالنقائض التي جرت بين الفرزدق وجرير ثم دخل الأخطل إلى جبهة النقض، ومن الصعب أن نجد علاقة بين شاعرين كبيرين يمتدح أحدهم الشاعر الآخر ودوره في تكوينه، لكن علاقة سعدي ببدر أنموذج مفارق، فمن خلال معرفتي وقراءاتي لم أرَ شاعرًا أوفى لشاعر آخر أكثر من وفاء سعدي يوسف لبدر شاكر السيّاب. فقد كان يكتب المقالات عن بداياته وعن علاقته الخاصة بالسيّاب، وبتعبير آخر كان يعدّه معلّمه الأول.