علوان السلمان
النص الروائي..التاريخ المتخيل السابح وسط عوالم التاريخ الموضوعي..هو الاقدر على انطاق وتحريك المسكوت عنه في الخطاب السوسيوثقافي المعبر عن الروح المجتمعية النابضة بالحياة باعتماد وسائل فنية ولغوية خالقة لجسده البنيوي لتحقيق فعالية ابداعية غايتها الاقناع والتأثير بوساطة تقنيات وآليات خطابية تمتد امتداد جغرافية النص المنتَج بتسجيل اللحظة وتعميق الاحساس بالوجود من خلال تصعيد وتيرة الحدث لتحقيق المتعة الجمالية والمنفعة الفكرية..
وبتفكيك عوالم النص السردي(البحر لايغمر الكبرياء) المشهدية المنبثقة من مخيلة فكرية ناضجة وتلقفتها انامل منتجها سلمان كاصد ناسجة لعوالمها السردية والمسرود الذاتي الذي يتم به استنطاق الذات من خلال الذاكرة والحلم..كما يفعل جيمس جويس..واسهمت دائرة الشؤون الثقافية في نشره وانتشاره/1985..كونه نص يعتمد الاسلوب الحدثي التصاعدي مع توظيف عنصري التشويق والاثارة لخلق مشاهده السردية التي تعد وسيلة التشخيص والتعبير الفني والجمالي عن قضايا الانسان(الحياة/الموت/الحب/ الحرب..) مع مراعاة كتلة من السياقات التي تؤطر المشهد من الخارج والداخل كالسياق اللغوي والذهني والنصي..اضافة الى اعتماد تيمة الشخصية الاشكالية المتأرجحة ما بين عالمها الداخلي والخارجي..اذ انها تبدو متكيفة ومندمجة والواقع على خلاف ما يدور في داخلها..فضلا عن تميزه بسمو البعد التأملي بخضوع اللغة لغواية الخيال المكتظ بطاقة حلمية اسهمت في تصعيد الواقع وجعله في مصاف الغرائبية ابتداء من العنوان العلامة السيميولوجية الدالة..والعتبة الايقونية المراوغة التي وظفها السارد مجازا واسلوبا من اجل استفزاز الذاكرة المستهلكة(المتلقي) بتعالقها وعوالم النص للكشف عن عمقه باستنطاق ما خلف مشاهده..
(البحر كتاب مفتوح لا تقرأ فيه شيئا سوى ضجيج الصمت في اذنيك المثقلتين وهما يضجان باصوات غريبة لم تألفها من قبل..
كنا تسعة جنود نقلب اوراق البحر بأكفنا المتعبة..صرنا كالموج يزحف في كل الاتجاهات..عيوننا شاخصة نحو الظل ونحو الضوء.. ظلال الامواج العالية…وضوء الشمس الهاربة..ايهما اهدأ في الرؤيا لتلك العيون الشاحبة لانعرف..صارت المسافة ضيقة بين الموت والحياة..قد تتسع في قلوب البعض لكنها قد تضيق باليأس في قلوب الآخرين ومع كل موجة تطلع من جوف البحر لتباغتني كنت أرى وجه(محسن عبدالباقي) يشير لي بهدوء نحو الجهة المجهولة التي صارت معتمة بين اجفاني المثقلة بركام من العذابات القاتلة لدقائق قليلة تصير الموجات عذابا وهي تدفعنا نحو الخلف امتارا فترتد باجساد ساكنة لا تقاوم ابدا.. ولدقائق اخرى ليست قليلة تصير الموجات المرتجفة خلفنا مسرات وهي تدفعنا امتارا الى الامام لتحرك سواعدنا بارتجافة الحياة..كنا نسبح مترا لنضيفه بكل قوة لتلك المسافات التي خلفناها للوراء تضرب وجه الماء..لنجد موجة مجهولة تأتي من بعيد لتضرب صدورنا مقتلعة اجسادنا من صفحة البحر كي ترجعنا مترين او ثلاثة للخلف…صارت هذه الحالة تقلقني فأحدق الوجوه التي تحولت الى وجه واحد ممزق..مشتت..يحاول ان يلتم على نفسه فيبدو كتلة واحدة بدون ملامح سوى ان في اعماقه وميضا يبرق وفي اطراف اصابعه المتخشبة رعشة من الحياة ..) ص109 ـ ص110..
فالسارد في نصه يكشف عن تجربة مستلة من فضاء الوجود المؤنسن(البحر والبحارة) بدلالة النص الموازي المهدى(الى الشهيد اوس زهير البحار الذي اشعل الحرائق في ذاكرتي ففجر كل اللحظات التي عشتها معه..وسمعتها من غيره..ورويت لي من عبدالله الداخل) ص5.. المتميز بشحناته المتصارعة وتفاعل مفرداته من خلال اقتناصها اللحظة والكشف عن دلالتها النفسية باقتصاد لغوي يفرض على المستهلك(المتلقي) التأويل بتحريك قواه الفكرية من اجل استنطاق الواقع وتحقيق عمل ابداعي يسجل انسانية الانسان انطلاقا من واقعه بكل موجوداته وابعاده..منبثقا من خياله ورؤاه الفكرية التي تكشف عن مخزون ثقافي يوظفه السارد من اجل توصيل رسالته التي اعتمدت الحدث المركزي(البحر وصراع امواجه من اجل البقاء)..تلك اللحظة المقتنصة من الواقع الذي يشكل فضاءها وحيزها وهي تتحرك فيه وتشغله ككيان اجتماعي يغلب عليه التوتر الكاشف عن التناقضات والتصورات فيضفي زخما من الحيوية والحركة الدينامية التي تسهم في خلق عنصر التشويق والاثارة..
(كان واجبنا ان نبقى يومين كاملين نحسبها بالساعات فتكون(48) ساعة في عرض البحر وعيوننا وافواه بنادقنا موجهة نحو المجهول.. كانت احاديثنا مشحونة بالطرائف والمواضيع الصغيرة المبتورة ذات الهموم المكشوفة للجميع..الاسرار لم تعد في عرض البحر مختبئة ربما يخبيء البعض اسراره لكننا نعرف انها نوع من الاسرار التي تنخر العظام فلا يبوح بها..انها لهم وحدهم في عالمهم الخاص..ليس هنالك شيء يوحي بالقلق حتى اننا لم نشعر محسنا بأننا نعتبر تطوعه حالة استثنائية رائعة بل العكس اشعرناه باننا في نزهة..نزهة الاحباب الذين يصفقون وافواههم تنطق بالغناء لصديق سوف يقضي على همومه في بلد الضباب..) ص50
فالسارد يزاوج ما بين الحكائية السيرية والفنية لخلق عوالمه الواقعية المكتظة بمضامينها الانسانية بلغة سردية شفيفة ومفردات بعيدة عن التقعر..فضلا عن حضور المكان بصفته الفضاء الحاضن الذي تتحدد داخله المشاهد والدلالات والرموز والهواجس التي تصنعها الذاكرة المنتجة التي تشكل مكونات النص الذي اعتمد تقانتي الاستباق والاسترجاع..اضافة الى ارتباطه بالادراك الحسي الذي يشكل نقطة الانطلاق صوب المجرد من خلال ثنائياته الضدية التي تتمحور حول (المفتوح/المغلق) و(الثابت/المتغير) و(الداخل/الخارج) و(المركز/الهامش)..فيكشف عن واقع نفسي وبعد اجتماعي للشخصية كونه بؤرة ثقافية كاشفة عن التحول السلوكي الذي لازم المشاهد الدرامية..النصية التي شكلت حركة تبادلية محقق للتفاعل بين الذات والموضوع مؤكدا على ما هو ذهني ونفسي مقترن بالانسان وذاته وما هو واقعي يقترن بالانسان وجودا باعتباره جسد وفكر يشغل حيزا في الفراغ وله فعل..
(السماء سوداء وهواء رطب يبتلع الظلام في ليل مبلل بدموع العيون اليقظة وهي تضرب وجه الماء بخطوات ثقيلة نرفع فيها اكفنا ليهتز ماء البحر فأطمئن نفسي واقول: انها خطوات حتى اصل..وتمر ساعات الليل بطيئة تتداخل الاتجاهات فيها فينمحي الافق البعيد وتضيع لوعة الوصول فأدرك في نهاية الامر انني لم اتقدم سوى خطوات قليلة..
انه الهزيع الاخير من الليلة الثانية..تناهى لسمعي صوت يتكسر واجنحة تخفق…اقلب وجهي يمينا وشمالا..احدق امامي اني ارى محسن عبدالباقي ينتصب بقامته الفارعة ويده المكتنزة ممسكا بشعلة من نار تضيء عتمة كل زوايا الليل المغلقة في بروج السماء..انه محسن عبدالباقي..اقسم ثانية انه يسكن كل الزوايا..يحدق في وجوهنا فترتجف عيناه عن دموع تتساقط لؤلؤا فوق صفحة الماء..فأظل احدق..أحدق..فاذا بي انظر الى صور النجوم وهي ترتسم نائمة في اعماق البحر…وقفت ارتعاشته اجفاني المتيبسة بالملح والارق فتناهى الى سمعي لحظتها صوت انداح من بعيد ليس غريبا على اذني..
ـ تقدم يا عبدالله الداخل..الموتى من يستقرون بلا حركة..انك ما تزال ابن ابيك…
فأصرخ..
ـ أرني وجهك ياصاحب الصوت / ص111 ـ ص112
فالسارد يوظف الجزئيات بطريقة اسهمت في تطوير الحدث والبناء الدرامي بوصفها وسائل كاشفة عن اعماق الشخصية المحورية(عبدالله الداخل) واحاسيسها ..اذ يتداخل الحكي والمتخيل السردي بشكل استرجاعي يقوم بوظيفة الادراك مع توظيف تقنيات وادوات سردية ضمن رؤية جمالية كالتنقيط(النص الصامت) الدال على الحذف والذي يستدعي المتلقي لملأ فراغاته.. وهناك الحوار الوسيلة السردية للتعبير عن الافكار والرؤى الشخصانية عبر مسارين:اولهما الحوار الذاتي(الداخلي) الذي هو حوار الذات والنفس…وثانيهما الحوار الموضوعي(الخارجي) الوسيلة الكاشفة عن وعي الشخصية ثقافيا واجتماعيا ونفسيا ضمن وحدة اسلوبية وموضوعية والذي يسهم في ابطاء السرد وغياب صوت الراوي العليم واستنطاق افكار المتحاورين والاعلان عما يدور في دواخلهم..
(وانا احدق في النار المنبثقة من وسط البحر..كان صوت محسن يأتي من بعيد..من وسط النور..
ـ كن ابن ابيك ياعبدالله..
حاولت الوصول الى مصدر الضوء..لم افلح..كانت اللحظة الحاسمة اسرع اختطافا من حركة كفي المتعبة فيرتجف الضوء..يرتجف..مبتعدا بين عباءة الليل في الفضاء المعتم…) ص115 ـ ص116
فالمشهد السردي يتشكل من خلال تداعي الزمن في الذاكرة باستدعاء الماضي بكل رموزه ومكوناته ليشكل بؤرة النص بكل ما يعني من قيم ورؤى وافكار عبر الانموذج الانساني الذي يقدمه المنتج(الراوي) عبر مشاهده السيمية باعتماد الجمل القصيرة..المكثفة التي تصور عالما تتسع دلالاته وتكتظ بالمشاعر برؤية مقترنة بمنطق جمالي وحركة متآلفة ومنطق الحياة الذي يعزز(لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة) الذي يجرنا الى عالم ارنست همنغواي في الشيخ والبحر وبطله سانتياغو..فضلا عن اعتماده ميكانيكية حركية غائرة في عمق الحدث الذي يجسد عنصر الفكرة المجردة مع تدفق شعور الذات المتداخل والحدث السابح في زمكانية بوحدة موضوعية متماسكة..محكمة البناء المكتنز بالدهشة..
وبذلك قدم الروائي نصا منفتحا على تقنيات السرد البصري الذي يستدعي المكان..الوعاء الفكري والحاضنة للفعل وانفعال وتفاعل المنتج بمشاهده المتوالدة من بعضها بمخيلة مكتنزة بالمعطيات الحسية التي يتفاعل معها بوعي ولغة محكية عبر خطاب الذات والذات الجمعي الآخر ومناخاتها..