خيانة المثقف العراقي بين المنهج والأيديولوجيا

خيانة المثقف العراقي بين المنهج والأيديولوجيا
آخر تحديث:

د. ضياء خضير 

حينما نتحدث عن النقد العراقي بين المنهج و الأيديولوجيا وعلاقتهما بالجغرافية والسلطة، فإننا نواجه بالسؤال المركزي الذي يتناول والوضع الثقافي الراهن وأزمة الهوية الوطنية التي تعيش مأزقا خطيرا لم تعد فيه رابطة الانتماء إلى الوطن قادرة على الصمود في وجه الولاءات الأيديولوجية والقومية والدينية والطائفية التي تمزّق النسيج الوطني وتضع مثقفنا العراقي الحالي من جديد أمام السؤال القديم الجديد:

 ما العمل؟ وتعيد إلى الأذهان التهمة القدمة الجديدة الخاصة بخيانة المثقف.  وهي تشكّل واحدة من أهم القضايا التي شغلت الفكر الإنساني في العصر الحديث، لأنها تمسّ جوهر العلاقة بين المعرفة والسلطة، وبين الضمير والمسؤولية الشخصية، بين الجديد الوافد والقديم الراكد.

 فمنذ مطلع القرن العشرين، ومع التحولات الكبرى التي شهدها العالم من حروب وأيديولوجيات وصعود للدولة الحديثة، لم يعد المثقف يُنظر إليه بوصفه مجرد كاتب أو فيلسوف أو أكاديمي، بل كفاعل أخلاقي يمتلك سلطة الكلمة والتأثير على الرأي الرأي. وعندما يتخلّى صاحب الكلمة عن دوره في خدمة الحقيقة، أو ينحاز إلى القوة على حساب الناس، أو  يكتب أشياء لاعلاقة بالواقع الاجتماعي القائم تبدأ ما يسميه المفكرون بـ الخيانة، أي انهيار الوظيفة الأخلاقية للمثقف أمام إغراءات السلطة، أو ضغط الأيديولوجيا، أو إغواء السوق.

المثقف بين الالتزام والخيانة 

هكذا ، يبدو المشهد الثقافي العراقي اليوم محكوماً بقدر كبير من التمزق الهوياتي الذي خلّفته عقود من الصراع والتحولات العنيفة، وهو تمزق أصاب صورة الفرد في ذاته وفي علاقته بالجماعة والذاكرة والانتماء إلى الناس، عمومِ الناس. وفي ظل هذا الواقع، تتعاظم مسؤولية الأديب، لا بوصفه صانعاً لجماليات لغوية عابرة، بل بوصفه فاعلاً ثقافياً قادراً على إعادة بناء الوعي وترميم الهوية عبر سرديات تكشف الجروح المشتركة وتعيد الإنسان إلى مركز التجربة. غير أن هذا الدور لم يكن دائماً واضحاً في الساحة النقدية العراقية، حتى بعد التغيير الذي تخلص فيه هذا المثقف من الضغط السياسي وإملاءات النظام الشمولي؛ إذ شهد النقد العراقي في العقود الأخيرة تداخلاً ملتبساً بين تبنّي المناهج الحديثة—وخاصة البنيوية وما تفرّع عنها—وبين الالتزامات الأيديولوجية التي حملها بعض النقاد في سياقات سياسية مضطربة. فقد بدا أن اللجوء إلى البنيوية، بما تقدّمه من حياد منهجي وتقنية لغوية محايدة، كان أحياناً محاولة للابتعاد عن الخطاب الأيديولوجي المباشر، لكنه أدى في الوقت ذاته إلى تحويل النص إلى بنية مغلقة منفصلة إلى حد كبير  عن الإنسان والتاريخ، وإلى إقصاء التجربة الحية التي تشكّل جوهر الأدب. ومع المبالغة في التمسك بالمفاهيم البنيوية، تحوّل النقد إلى ممارسة تقنية جافة لا تلامس الأسئلة العميقة المتعلقة بالهوية والعدالة والذاكرة، مما أنتج قراءات باردة تخلو من الحرارة الشخصية الحسّ الإنساني. وهكذا وجد بعض النقاد أنفسهم في موقع الهجنة والرطانة المنهجية: يستخدمون أدوات البنيوية وصرامتها المصطلحية، لكنهم في العمق مثقلون بأسئلة الواقع التي لا يسمح المنهج بطرحها صراحة. وقد ساهم هذا التوتر في إضعاف فاعلية النقد العراقي بوصفه أداةً للوعي، وعمّق الفجوة بين النص وبيئته، مما جعل الحاجة ملحّة إلى استعادة وظيفة الأدب بوصفه خطاباً إنسانياً قادراً على مواجهة التمزق الهوياتي لا عبر التزيين البلاغي ولا المحسنات اللفظية التي تتحول في حال المبالغة إلى مقبّحات، ولا عبر التجريد البنيوي، بل عبر مساءلة الواقع والإنسان بلغة تتجاوز الزخرفة والحياد الزائف معاً

وهذا هو الذي يدعونا للحديث عن عن الخيانة.

لقد برز  مصطلح (خيانة المثقفين)  لأول مرة بصورة فكرية واضحة في كتاب الفرنسي جوليان بندا  «La Trahison des Clercs خيانة المثقفين أو الانتلجسيا عام ١٩٢٧، حيث اتهم باندا مفكري أوروبا بالتخلي عن رسالتهم الإنسانية حين انجرّوا وراء النزعات القومية المتطرفة التي قادت لاحقاً إلى الحرب العالمية الثانية. رأى بندا أن المثقف الحقيقي هو الذي يعيش من أجل “القيم الخالدة” مثل العدالة والعقل والحرية، وأنّ أيَّ انحياز إلى القوة السياسية أو العسكرية يُعدّ سقوطاً أخلاقياً. لكن هذا المفهوم لم يبقَ كما هو؛ بل اتسع لاحقاً ليشمل أنماطاً جديدة من الخيانة ظهرت مع تغيّر بنية النظام في أوربا والعالم.

بعد الحرب العالمية الثانية، دخل المثقف في سياق أكثر تعقيداً. فقد انقلب العالم إلى فضاء للصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب، وتحوّلت الأنظمة الشمولية إلى مؤسسات ضخمة تستثمر في الفكر والدعاية. ووجد كثير من المثقفين أنفسهم جزءاً من ماكينة السلطة، إما دفاعاً عن الشيوعية أو الليبرالية أو القومية، وفي كل تيار ظهرت نماذج مثقفين يبرّرون القمع باسم الثورة، أو التقدم أو الدفاع عن الأمة.. 

هنا لم تعد الخيانة مجردَ انحياز سياسي، بل أصبحت تضحية بالحقيقة لصالح الأيديولوجيا، وتحوّلَ المثقف إلى موظف يزيّن خطاب السلطة بدل أن يواجهه. وقد انتقد غرامشي هذا النوع من المثقفين، مميزاً بين “المثقف التقليدي” الذي يكرر خطاب السلطة، و”المثقف العضوي” الذي يحاول إحداث وعي نقدي في المجتمع.

ومع السبعينيات وما بعدها، تغيّر شكل الخيانة مرة أخرى. فمع صعود الإعلام الجماهيري والاقتصاد الرأسمالي الجديد، تحوّلت المعرفة إلى سلعة، وصار المثقف يواجه إغراءات من نوع مختلف: الشهرة، والظهور التلفزيوني، والجوائز، والارتباط بالمؤسسات الممولة. وفي هذا السياق، لم تعد الخيانة مقتصرة على خدمة السلطة السياسية، بل ظهرت خيانة من نوع ثقافي – تجاري، حيث يستبدل المثقف العمق بالسطحية، والتحليل العلمي بالشعارات الجاهزة، والجرأة النقدية بالإرضاء والترويج، وتطييب الخواطر. وقد وصف بيير بورديو هذا التحوّل بأنه بيع للعقل في السوق الإعلامي،  حيث تُختَزل المعرفة إلى رأي سريع قابل للاستهلاك، يفقد قيمته الأخلاقية والبحثية الأساسية. 

ولا بدَّ أن نذكر كذلك أن سلامة النوايا والضمير الإنساني الحي لا تكفي وحدها لتبييض ساحة المثقف ما لم يرتبط عنده كلُّ ذلك بشيء من العمق في الوعي والإدراك لضرورات السياق الاجتماعي والسياسي القائم. 

الحقبة الرقمية

ومع دخول العالم الحقبة الرقمية، اتخذت خيانة المثقف شكلاً أكثر غموضاً. فالإعلام الجديد، وشبكات التواصل، وما يسمى بـ عصر ما بعد الحقيقة، جعلت المثقف في مواجهة تحدٍّ جديد: كيف يقول الحقيقة في عالم لا يهتم بالحقيقة؟ هنا تظهر الخيانة حين يتحول المثقف إلى جزء من ضجيج المعلومات، فيتبنى الشائعة، أو يروّج خطاباً شعبوياً، أو يستخدم سلطته المعرفية لتجميل الأكاذيب أو تضليل الرأي العام. وفي هذا النوع من الخيانة لا يكون المثقف تابعاً لسلطة سياسية فقط، بل تابعاً لـ خوارزميات ترفع ما هو رائج وتقني، بدلا مما هو صادق وإنساني.

أما في العالم العربي، فقد اتخذت خيانة المثقف أبعاداً خاصة. فالأنظمة السلطوية، وتداخل الدين بالسياسة، والحروب، والصراعات الطائفية، والاقتصاد الريعي، كلها عوامل دفعت بعض المثقفين إلى أداء أدوار تتراوح بين التبرير والصمت والمشاركة المباشرة في صناعة خطاب يدعم الاستبداد. فكم من مثقف تحوّل إلى مروّج لخطاب السلطة، أو إلى شاعر يمجّد الحاكم، أو أكاديمي يستخدم المعرفة لتطويع الناس بدل تحريرهم. وتزداد الخيانة وضوحاً عندما يصمت المثقف أمام الظلم خوفاً أو طمعاً، أو حين يُسخّر علمه لتجميل واقعٍ مأزوم، أو عندما يفقد حسّه النقدي ويتحول إلى جزء من البنية التي كان يفترض أن يواجهها.ومع ذلك، لا يمكن النظر إلى مفهوم خيانة المثقف بصورة تبسيطية وواقعية تتجاوز صعوبات ما هو قائم . فالمثقف يعمل، كما نعرف في عالم مليء بالضغوط: 

– رقابة

– فقر مؤسساتي، 

– تهديدات، 

– تشويه رقمي، 

– وانهيار في البنى التربوية والأكاديمية والإعلامية. 

ولذلك فإن كثيرين يرون أن المثقف المعاصر ليس خائناً بقدر ما هو ضحية منظومة أكبر. لكن هذا لا يلغي وجود نوع من الخيانة الإرادية التي تظهر حين يضحّي المثقف بواجبه الأخلاقي، ويختار الراحة أو المنفعة على حساب الحقيقة.

إن جوهر فكرة خيانة المثقف لا يتعلق بالموقف السياسي، بل بالوظيفة الأخلاقية للعقل. فالمثقف خائن عندما يتخلى عن دوره الطبيعي بوصفه ضمير المجتمع، وعندما يتحول من مقاومة الظلم إلى تبريره، ومن حماية الحقيقة إلى إخفائها، ومن الدفاع عن الإنسان إلى التحالف مع من يسحقونه. وكلما أصبحت الكلمة سلعة، والرأي أداةً، والموقف صفقة، اتسع مفهوم الخيانة، وانحسرت قيمة المثقف بوصفه حارساً للمعنى.

   العالم المعاصر، بتعقيداته وقواه الهائلة، يحتاج إلى مثقف لا يكتفي بالقول بل بالمواجهة، لا يكتفي بفهم الواقع بل بفضحه، ولا يكتفي بالوعي بل بخلق وعي جديد. فما تزال وظيفة المثقف الأصيلة – رغم كل التحولات – هي الالتزام بالحقيقة في زمن يفقد فيه الناس بوصلتهم، والوقوف مع الإنسان الأعزل حين يتخلى الجميع عنه. وعندما يتخلى المثقف عن هذا الدور، فإنه لا يخون ذاته وحدها، بل يخون المجتمع بأسره.

وضع المثقف العراقي الحالي

ونحن نعلم أن المجتمع العراقي يواجه في العقود الأخيرة أحدَ أشدّ أشكال الاضطراب والارتباك الثقافي وهو التصدّع الهوياتي؛ فترة انتقالية غير مستقّرة على كل الأصعدة الساسية والفكرية والأيديولوجية.  تمزق لا يصيب صورة العراقي في داخله، وانتمائه الوطني والاجتماعي، وموقعه في التاريخ الحديث. وهو لا يعود في أسابابه إلى عامل واحد، بل إلى تراكم الحروب الخارجية والأهلية، والتحولات السياسية العنيفة، وتفكّك البنى الاجتماعية التقليدية، وصراع القوميات والطوائف، وصولاً إلى التأثيرات العابرة للقوميات والمجتمعات التي أحدثتها التكنولوجيا والاقتصاد العالمي. وفي ظل هذا المشهد، لا يصبح الأدب ترفاً جمالياً، ولا مساحة للزخرفة اللفظية، بل شرطاً معرفياً وأخلاقياً لإعادة بناء الوعي.

إن مسؤولية الأديب اليوم تتجاوز إنتاج نصوص منسوبة إلى “الجميل” في حدود اللغة، إلى ممارسة دور ثقافي نقدي يُسهم في إعادة لحم العناصر المتباعدة في الهوية الوطنية ومواجهة التشظّي. فالهويات حين تتصدع لا تُرمَّم بالشعارات أو الخطابات السياسية، بل عبر سرديات قادرة على إعادة الإنسان إلى مركز التجربة، والكشف عن القواسم المشتركة التي تُنقذ المجتمع من التفكك. وهنا تتكثف وظيفة الأديب: أن يمنح المجتمع خطاباً جديداً للذات، وأن يعيد كتابة ذاكرة معاصرة ترفض الإقصاء وتمنح المختلفين مساحة ليكونوا جزءاً من الكُلّ.

هكذا، يحتاج العراق اليوم إلى أدب لا يقف عند حدود التزيين اللغوي أو المباهاة الأسلوبية، بل إلى نصوص تكشف هشاشتنا الجماعية، وتسمّي جروحنا المحلّيّة من دون خجل. فالجمال اللفظي الزائف، الذي يُزيّن الخراب بدل أن يُضيئه، يتحول إلى شكل من أشكال المشاركة في إدامة الأزمة. أما الجمال الحقيقي فهو ذاك الذي يملك الشجاعة لاقتحام المناطق المظلمة، ولتفكيك الأساطير التي تكرّس الانقسام، ولصياغة لغة تستوعب التجربة العراقية بما فيها من ألم وتمزّق، من غير أن تسقط في خطاب الكراهية أو التبرير، ولا التبسيط البعيد عن عمق الحساسية الجمالية. 

إن مسؤولية الأديب، بوصفه حارساً للوعي الجمعي، تكمن في إنتاج سرديات تعيد ترتيب علاقتنا بالتاريخ وبالمدينة، وبالآخر المختلف. وهذا يتطلب من الشاعر أو الروائي أو المسرحي أن يتحرر من إغراء “التجميل البلاغي” الذي يستبدل الحقيقة بالأسلوب، الذي تلتقي فيه بعضُ المناهج النصية والأسلوبية الحديثة مع أسوء ما كان في تراثنا البلاغي من أداء لفظي وحرص على البيان والبديع الخاليين من عمق المحتوى ووجود المعنى والمضمون الإنساني. فالمطلوب في هذه المرحلة هو كيفية إيجاد أساليب أدبية مبسطة قادرة على أن تقترب من الإنسان الممزق، من اللاجئ والمهاجر، والضحية، والناجي بنفسه من المحرقة، وليس إحالته إلى رمز تجريدي، بل ليعيد إليه صوته الذي ضاع وسط ضجيج الأحداث العنيفة المتوالية . فالأدب حين يفقد حسّه الإنساني يتحول إلى صناعة لغوية لا أثر لها.وهكذا يصبح الأديب،لا السياسي ولا الخطيب ولا الإعلامي، القادرَ على وضع المجتمع أمام مرآة صادقة، وعلى طرح أسئلة جوهرية: 

كيف نرى أنفسنا بعد كل هذا الخراب؟ 

ما معنى أن يكون العراقي عراقياً اليوم؟ 

ما القيم المشتركة التي يمكن أن تجمع الأجيال الجديدة؟

 هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عنها من دون خطاب أدبي جديد، يواجه الواقع كما هو، ويعيد للهوية دورَها بوصفها مساحة للتعايش، لا ساحة لصراع الانتماءات التي تتدخل فيها القومية والطائفة والعشيرة.إن العراق بحاجة إلى أدب يساهم في بناء هوية مفتوحة تتجاوز الانغلاق الطائفي والقومي، وتؤسس لوعي نقدي يرى التعدد قيمة لا تهديداً. وهو دور لا  يتحقق ما لم يحمل الأديب شجاعة تجاوز النمط الاستعراضي الذي ساد زمناً طويلاً، ويستبدله بمسؤولية أخلاقية تجاه المجتمع. فالأديب الحقيقي ليس من ينسج الكلمات بإتقان، بل من يملك القدرة على إعادة الإنسان إلى مركز الكتابة، وعلى تحويل النص إلى فعل مقاومة ضد التفكك، وإلى أفق جديد لإعادة بناء الذات العراقية، الأمر الذي يبعد عن هذا الأديب شبح الاتهام بالخيانة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *