الكثيرون يتذكرون دوائر التجنيد المنتشرة في انحاء العراق وما كانت تفعله بالخلق وهم يساقون الى افظع مؤسسة تخصصت في امتهان حرية الانسان وسلبه آدميته ؟؟ , والحق.. اني لست بصدد اثارة الاحزان والشجون وانعاش ذاكرة من يحاولون نسيان الغثيان وتهيج القولون المزمن الذي كانت تخلفته بيانات دعوة المواليد وبشارات مراجعة التجانيد لأداء خدمة الاحتياط آنذاك , لقد تذكرت دائرة تجنيدي ـ التي حرصت لليوم الى عدم المرور بالقرب من اطلالها ـ وانا استمع الى صديق سويدي الجنسية وعراقي المنشأ وهو يشكو الويل والثبور من مراجعاته هو وزوجته وطفلتيه الى السفارة العراقية في ستوكهولم.
يقول صديقي عندما تراجع اية دائرة رسمية في السويد فانك تعجز عن وصف ما تلاقيه من تعاون، وانتظام في العمل، ودقة متناهية في المواعيد، واحترام يجعلك تغرق في بحر خجلك مما تلاقيه في سفارة العراق التي تقدم خدماتها (الجليلة) الى المواطنين العراقيين في السويد وعدة بلدان اخرى كالدنمارك والنروج وغيرها , اذ حالما تصل الى البوابة الرئيسة تواجهك ورقة كتب عليها كلمة (اسحب) ولكنك تفاجئ ان البوابة الثقيلة جدا من دون مقبض ليس هناك سوى (ثقب) عليك ان تتفاهم معه بالدعاء أو باطلاق عبارة افتح يا سمسم.
بعد الدخول اول شيء تطالعه في اية سفارة بدول العالم المتقدم والمتأخر معا هي صورة رئيس الدولة أو ملكها ولكن (عجبا ان صورة مام جلال ملتصقة على الحائط وبأطار مكسور).. سألتني زوجتي بلسان عراقي فصيح، لماذا برأيك صورة رئيسنا المفدى وضعت مكسورة الاطار وبشكل يوحي اليك انها قد تتبدل في اية لحظة؟؟ اجبتها.. أش.. أش ما ادري كولي الله يشافي وبس؟؟.
عند باب قاعة الانتظار الداخلية يقف موظف يسلمك كارت فيه رقم تسلسلك ويقول لك بعبارة فيها الكثير من التهكم (تفضلوا استريحوا) ويطلب منك غلق جهاز الموبايل لا لشيء فقط كي يذكرك بانك في دائرة عراقية فحسب.. وحالما تدخل الى القاعة تكتشف انها مكان اعد للحشر وليس للانتظار، لم يكن هناك مقعد واحد فارغ أكثر من 200 مراجع في قاعة لا تسع أكثر من 40 شخصا… المكان يضج بصراخ الاطفال وهمهمات المراجعين وبين فينة واخرى يصرخ موظف برقم، مثلا 33 فيزعق الجميع وراءه باعلى اصواتهم باللغتين العربية والكوردية: وين الـ 33 .
ووسط ذلك الهرج والمرج لم تنقطع ابني من القول ( بابا اريد اروح للحمام!!) سألت يمعودين اين الحمام؟؟ أشار لي احدهم الى باب صغير وسط القاعة وقد سارع الى غلق منخريه! تحركت وابنتي باتجاه الحمام ولاحظت ان الجميع عمدوا الى سد مناخيرهم .. فتحت الباب فتعالت الاصوات (يمعود رحمة لوالديك سد الباب الريحة كتلتنه) قلت يا الهي هل حقنا انا في سفارة وسط ستوكهولم أم اني اقف بالقرب من احدى دورات المياه العمومية في الباب الشرقي؟؟.
توسلت ايما توسل بابنتي الصغيرة ان تدخر ما عندها لحين العودة الى الفندق لكنها اصرت على فعل فعلتها الشنيعة وسط تلك الحشود المعترضة، وحقا ارتكبت ابنتي وبإصرار جريمة اقل ما توصف انها جريمة بحق الانسانية، واكتشفت مدى بشاعة الموقف وان أقرأ وجوه الناس ونحن نخرج من التواليت وقد علت محياي امارات الخجل فيما لاحت في عيون ابنتي نشوة الانتصار!! .
بعد ساعات من الانتظار المر جاء عدد من الموظفين الاجلاف كأنهم في دائرة الانضباط العسكري واخذوا يدققون كارتات الارقام وقالوا لي ولمجموعة من المراجعين اذهبوا وانتظروا في الخارج لان تسلسلاتكم ما تزال بعيد جدا … قلت يمعودين الدنيا انجماد عشرة تحت الصفر بالخارج قالوا هذه ليست مشكلتنا المكان مزدحم ويجب ان نخفف الضغط قليلا.
ايقنت حينها مدى صحة ما فعلته عندما هاجرت خارج البلاد لا لشيء الا لمجرد تخفيف الضغط عن الاخرين من اجل ان ينعموا في بحبوحة من العيش بعيدا عن الروائح الكريهة!!!.. انتهى كلام صاحبي الذي اثار في الشجون والاحزان وانا اقارن بين ما سمعته منه وبين مشاهداتي لعدد من سفارات البلدان العربية والاجنبية ببغداد والتي يحرص القائمون فيها على نشر ثقافة بلدانهم وتزيين السفارات بشكل ينم عن ذوق العاملين في السلك الدبلوماسي ويعكس صورة مشرقة ومشرَفة لبلدانهم.. ترى هل نعجز ونحن البلد الغني من شراء أو استئجار بناية تليق بالعراق والعراقيين وتستوعب اعداد المراجعين وتتناسب مع حجم المهاجرين في السويد وما حولها؟؟ ثم كيف نطلب من الكفآت العلمية العودة الى احضان الوطن ونحن نعجز عن احتضانهم في سفارة تليق بهم وتتعامل معهم وفق معايير انسانية فقط ؟؟ … صدك لو كالوا ( يامهجج عجج).
محمد خليل كيطان : [email protected]