تصريح بريطاني ” كنا نحسب ألف حساب لرجال السلك الدبلوماسي العراقي في زمن صدام حسين لما عهدناه من كياسه وخلق عال ورفيع لمن يمثلون العراق آنذاك” , الحديث عن الدبلوماسية في العراق المحتل حديث مرٌ كمرارة العلقم، ويحز في النفس البشرية، ومع هذا لا يمكن بأي حال من الأحوال فصله أو عزله عن الوضع العام الذي يعيشه العراقيون. وهو وضع لا يدعو إلى التفاؤل على أقل تقدير خلال عقود قادمة. وليس هذا التخمين ناجم عن رؤية شخصية سوداوية لمستقبل العراق بقدر ما هو إستقراء مبني على أسس منطقية لا تقبل الشك والجدل. لأن تجارب الشعوب أثبتت قطعا بأنه مهما كان مستوى الخراب والدمار الذي يلمٌ بالدول سيما تلك التي خاضت حروب شرسة، فإنه يمكن إعادة تعمير البلد خلال عقد او اكثر إذا لم يخرب البشر. وهناك الكثير من الشواهد التي يمكن الإستدلال بها خلال الحربين العالميتين وما بعدها. مع الأخذ بنظر الإعتبار تحسين الوضع النفسي والإجتماعي للمجتمعات نفسها لفترة بعد الحرب. فكل شيء يمكن بنائه وإعادة تعميره بسهوله وخلال فترة قصيرة إلا الإنسان نفسه , فهو يحتاج إلى عدة عقود لإعادة بنائه وتأهيله كعنصر إيجابي في المجتمع .
لذلك فإن مشكلة العراق هي مشكلة الإنسان العراقي الذي غرق في مستنقع الطائفية والعنصرية والمصلحية والعشائرية والإنتهازية فسُحقت الهوية الوطنية وإرتقت الهوية الطائفية والعنصرية. وبطبيعة الحال فهذا الأمر لم يأتِ إعتباطا والدليل على ذلك أن البلدان التي شهدت الحروب الضارية لم تعانِ من المشاكل الإجتماعية التي يعاني منها الشعب العراقي في الوقت الحاضر. إسحق شخصية المواطن تسحق بذلك شخصية الوطن. خرب عقل المواطن تخرب ذاكرة الوطن. إزرع الجهل والأمية تحصد التخلف والظلم. إنشر الجوع بين الناس تضمن طاعتهم العمياء.
وزارات الخارجية في كل دول العالم المتحضرة منها والمتخلفة تضم النخب الإجتماعية والثقافية. وعتبة الوزارة محصور دخولها على حملة الشهادات العليا والمتنورين ثقافيا وحضاريا واصحاب الوعي الوطني الصميمي، علاوة على بقية المؤهلات المطلوبة كالكفاءة والذكاء وتعدد اللغات واللياقة والجسامة والقدرة على النقاش وقابلية التفاوض والإقناع ومعرفة البروتوكول بكل تفاصيله الدقيقة والإلتزام بالتعليمات الدولية ( نصوص إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية) وكذلك الإلتزام بالأنظمة والتعليمات التي ترسمها الوزارة. وهذه المواصفات العديدة والصعبة نوعا ما، من الصعب أن تتوفر عند كل شخص. لذا فأن الدبلوماسيين بشكل عام قلة لأن النخبة دائما قلة. كما إن الوزارة تتعب جدا في إختيار من يعمل في هذه الحقل الحيوي وتبذل جهودا جبارة في تأهيلهم للعمل الدبلوماسي. وترهقهم أيضا بالدورات الدبلوماسية واللغوية والأمنية وإمتحانات الكفاءة والترقية، فأي درجة دبلوماسية لا يرتقيها الدبلوماسي إلا بعد إمتحان عسير. بمعنى يبقى الدبلوماسي طالبا ومطالبا بالإمتحانات والنجاح لحد الوصول إلى درجة وزير مفوض.
ووزارة الخارجية العراقية أبان الحكم الوطني السابق كانت شديدة وصارمة في تنفيذ تعليماتها ولم يُستثنى من تلك التعليمات إلا عددا لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة. على سبيل المثال إن أحد كبار الإعلاميين في وزارة الإعلام وكان قريبا من السيد وزير الخارجية حينذاك طارق عزيز تمت إستعارة خدماته للعمل في وزارة الخارجية بتزكية من الوزير نفسه، على أن يخضع لأمتحان الكفاءة في اللغة الإنكليزية أو الفرنسية. ولم يتمكن الإعلامي المرموق من النجاح في الإمتحان، فإعتذر الوزير عن قبوله وأعيدت خدماته لوزارة الإعلام. كذلك تم قبول مصعب عبد الجبار محسن المستشار الإعلامي السابق لرئيس الجمهورية في الوزارة بقرار من رئيس الجمهورية وذلك بإستثنائه من ضوابط القبول في وزارة الخارجية بإستثناء الإمتحان وقد أداه مصعب بنجاح ولم تكن عنده مشكلة فيه لأنه أصلا مهندس طيران. وهو والحق يقال في قمة الأخلاق واللياقة والمواصفات التي تضمن له النجاح في العمل الدبلوماسي. لكنه لم يتمكن من الصمود بسبب ضوابط الترقية والعمل في الخارج علاوة على الدورات المكثفة والمستمرة. وآخر كان يشغل منصب مدير ناحية وقدم طلبا لرئيس الجمهورية مبديا رغبته في العمل في وزارة الخارجية، لكنه أيضا لم يصمد طويلا. لذا لم يكن العمل في الوزارة سهلا مطلق،ا صقل وتجديد دائم للمهارات العقلية. ولهذا السبب انجبت وزارة الخارجية العراقية نخبة رائعة من ألمع الدبلوماسيين، ما زالت الدبلوماسية الدولية وليس العراقية فحسب تشيد بهم وبكفائتهم ، مثل نزار حمدون ووسام الزهاوي ورياض القيسي واكرم الوتري وفاروق زيادة وبسام كبة والمئات غيرهم. حتى السفراء الذين جاءوا من وزارات أخرى فإن معظمهم قد أبدع في عمله وكان عند حسن الظن. أو نُقل إلى وزارة أخرى تناسب مؤهلاته وإمكانياته.
ومنصب وزير الخارجية ليس منصبا هينا يمكن لأي كان القيام به، رغم دوره كمنفذ وليس كمشرع لسياسة البلد الخارجية، إنه يمثل المسؤولية بأخطر صورها والتعب الدائم والتوتر الملازم والسهر واليقظة والعمل الدؤي والمتابعة المستمرة للأخبار وكل صغيرة وكبيرة تحدث داخل البلد وخارجه. وقد أخبرني أحد الدبلوماسيين ممن عمل في مكتب السيد الوزير محمد سعيد الصحاف لفترة طويلة، بأن السيد الصحاف لا ينام أكثر من أربع ساعات يوميا. يأتِ الوزارة الساعة الثامنة والنصف صباحا ويغادر الساعة الرابعة عصرا، ويأتِ ثانية الساعة السابعة مساءا لغاية الساعة الواحدة او الثانية صباحا وهكذا دواليك. قال هذا الدبلومامسي أتعبنا الوزير الصحاف جدا وأتعب نفسه أكثر، لكنه تعب مثمر. هذا الوزير المجاهد لم يك له حماية سوى شخص واحد فقط(سيد هاشم) كان الحماية والمرافق وكل شيء. وبعد عدة سنوات رأف الوزير بحاله ففاتح الرئاسة لطلب مرافق آخر. بالطبع لا تصلح المقارنة بين الوزير الصحاف وأي وزير من وزراء الإحتلال بأي شكل من الأشكال. لكن قارن بين عدد مرافقين وحراس الوزراء الحاليين بوزراء العهد الوطني لترى البون الشاسع.
هكذا كان حال الوزارة، وهكذا كان حال الوزراء والدبلوماسيين، كتلة ملتهبة من الوطنية والنزاهة والذكاء والعمل والإبداع والإنضابط والأخلاق الرفيعة. صحيح هناك بعض المشاكل التي حصلت هنا وهناك لكنها لا تقارن بما يحصل الآن، ومعظمها كان بسبب الإحتكاك بين الدبلوماسيين والحراس(رجال المخابرات). ومن المؤسف أن تُغتال الدبلوماسية كما أغتيل الوطن. كان للوزير هوشيار زيباري موقفا طيبا في إحتضان بعض الدبلوماسيين القدامى وهم عدد محدود جدا لا يشكل حاليا 10% من مجموع الدبلوماسيين العاملين في الوزارة. وما يُعيب الوزير هو إضفاء الصبغة الشوفينية على الوزارة بكثرة عدد الأكراد. وعدم قدرته على كبح جماح المتهورين والمسيئين بسبب حماية الأحزاب الحاكمة لظهورهم. مما شجع على تسيبهم وتمردهم ووقاحتهم.
لذا لم يكن مستغربا أن يوعز السفير العراقي في بخارست لحراسه بضرب الشخص الثاني في السفارة ضربا مبرحا. وأعفى السفير و المعتدون من العقوبة ونقل الشخص الثاني إلى السفارة العراقية في عمان كترضية، لأن الزيباري ليست له سلطة على سفرائه بما فيهم الأكراد من غير حزبه. ولم يك من المستغرب أن يبيع دبلوماسي عراقي دعوة حفلة زواج دوق كامبرج الأمير وليم لدبلوماسي من دول الخليج. أو إن يجعل السفير في اليونان من محظيته السكرتيرة الأجنبية الشخص الثاني في السفارة تأمر وتنهي. ولم يك من المستغرب أن يصفع دبلوماسي عراقي ضابط مصري في مطار القاهرة بكل وقاحة. ولم يك من المستغرب أن يصحب ممثل العراق الدائم في الأمم المتحدة أحدى محظياته(زوجة متعة) لمقر إقامته.
ولم يك من المستغرب أن يمثل سفير عراقي في دولة أوربية الطائفة وليس العراق فيجعل من السفارة حسنية في عاشوراء. وسفير كردي آخر يعلق خارطة كردستان بدلا من خارطة العراق على جدار السفارة.
لذا فليس من المستغرب أن يعتدي السفير وأحدى محظياته السفيهات والدبلوماسيون البلطجية على مواطنين أردنيين في عقر دارهم. في سابقة خطيرة لم يشهد لها التأريخ الدبلوماسي العراقي والعربي لها من مثيل.
لكن العتب ليس على الدبلوماسية العراقية فحسب، فالسفير العراقي الدعوجي يحمل جواز سفر إيراني وقد أرسل إلى عمان بالذات بتوجيه مباشر من قبل الخامنئي لينفذ أجندة أسياده الملالي في الأردن الشقيق ويعزز عمل السفير الإيراني في عمان. وهذه ما عبر عنه الجنرال سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني بوضوح عندما تحدث عن وجود فعلي لهم في الأردن والكويت. ومن المؤسف أن الحكومة الأردنية لم يكن لها ردُ فعل مناسب على وقاحة سليماني.
من المعروف إن الدبلوماسي لا يمثل شخصه وإنما يمثل وجه بلاده في الدولة المعتمد فيها، لذا فإن أية كلمة يتفوه بها أو عمل أو حركة يقوم بها تُحسب على حكومته وليس على شخصه. ومن هنا يتضح مدى خطورة منصبه والتشدد في إختيار من يتولى تمثيل بلده في الخارج. وهؤلاء الدبلوماسيون البلطجية هم المثل الحقيقي لحكومة البلطجية والميليشيات الإرهابية في العراق. إنهم جزء من العجينة الفاسدة. صراصر تسربت من بالوعة الخامنئي وإنتشرت في كل مكان. لذل ليس من المستغرب أن يرفعوا الكراسي بكل حماقة وسفاهة ليرموها على ضيوف مؤتمرهم المزيف وبحضور السفير العراقي الذي كان كالقواد بين بغاياه. يشجعهم في نبوغهم البلطجماسي وإلتزامهم ببروتوكول البرابرة.
وبقدر ما كان موقف الدبلوماسيين البلطجية معيبا ومخزيا ومنافيا للبروتوكول وأصول الضيافة بقدر ما كان موقف الإردنيين ممن تعرض للضرب موقفا بروتوكوليا وإلتزما يثير العجب والإعجاب. لقد كانوا دبلوماسيين بالسليقة في تصرفهم وأخلاقهم، ولم يدافعوا عن انفسهم ضد البرابرة لأنهم يعرفوا جيدا إن القانون في الأردن قانونا صارما، والقضاء عادل وغير مسيس لأي جهة كما هو الأمر عليه في بلد البلطجية. وهم موقنون بأن القضاء سيعيد لهم حقهم وكرامتهم كموطنين أهينوا في بلدهم بلا وجه حق. ولو كانوا قد تصرفوا مثل الدبلوماسيين البلطجية وردوا لهم الصاع بصاعين لكن موقفهم أضعف.
“ربٌ ضارة نافعة” كما يقول المثل، إنها فرصة ليدرك أشقائنا في الأردن حجم المعاناة العراقية في ظل القيادة الشيطانية لعملاء إيران. وإن كان الدبلوماسيون يتصرفون هكذا فما بالك بالجيش والشرطة والأجهزة الأمنية وعناصر المليشيات تجاه الشعب؟ إن كانوا يتصرفون خارج العراق هكذا فكيف يكون تصرفهم داخل العراق؟ إن كانوا دبلوماسيون ويتصرفون هكذا فما بالك بالوزراء والنواب ورؤساء الاحزاب؟
إن هذه التصرفات الهمجية تفسر همجية الحكومة التي أرسلتهم ليمثلونها في بلد عربي شقيق يحتضن ما يقارب المليون عراقي ممن شردتهم الحكومة وميليشياتها الإرهابية. وربما تلك فرصة نادرة يستفيد منها أشقائنا في الأردن ليعرفوا مدى خطور الدور الإيراني الذي ربى هؤلاء القرود وأرسلهم للعراق. ويتداركوا السرطان قبل أن ينمو في جسد المملكة لا سامح الله وينخر بنسيجها الإجتماعي الرائع. ولكم في العراق عبرة يا أصحاب العقول.
إن إساءة الدبلوماسي في البلد الذي يعمل به وإنتهاكه للقوانين المحلية لا يؤمن له الحصانة من القانون المحلي كما نصت إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية. ولابد أن يخضع هؤلاء البلطجية إلى العقوبات التي تتناسب وإعتدائهم ليكونوا عبرة لسواهم. وعلى الأردن المطالبة بإبعاد السفير العراقي ـ الإيراني بإعتباره شخص غير موغوب به. كما إن هذا السفير بعد هذه الحماقة يستحيل عليه أن يعمل في الأردن.
وليعلم إخواننا في الأردن إن إعتذار الوزير الزيباري هو مجاملة بروتوكولية لا تفِ بالغرض. وإن الإخبار المتداولة تؤكد بأن رئيس الوزراء ووزير الداخلية العراقي قد أثنيا على المعتدين وطالبوا بسرعة إعادتهم للعراق، ووعدوهم بأن يمارسوا عملهم الدبلوماسي في بلد أوربي كمكافأة على إنجازهم الباهر!
وإذا إعتذر المالكي خلال مشاركته في مؤتمر دارفوس في عمان عن إعتداء الدبلوماسيين البلطجية. فلا ينسى أشقائنا في الأردن عقيدة التقية التي يؤمن بها رئيس الوزراء ويعمل بها، فإنها تمثل نصف دينه.
علي الكاش
دبلوماسية الكراسي وصناعة العداوات