هل كان بوسع بلدٍ ضعيفٍ، غارقٍ بالأزمات، تنهبه الميليشيات، وخاضعٍ لهيمنة إيران، أن يُرسل إلى القمة العربية إلا رئيسا ضعيفا لا يملك من أمر إرادته شيئا؟ هل كان بوسع مؤسسة رئاسة في هذا البلد، لا تعدو مكانتها أن تكون مكانة هزيلة، كارتونية، وليس لها حضور أن ترسل إلى القمة العربية إلا رئيسا شبحا يبدو وكأنه عابر سبيل وبلا حضور؟وهل كان يمكن لبلد لا يعرف مستقبله، ولا يملك أن يدافع عن مصالحه، وبات بلا حول ولا قوة بالمقاييس الإقليمية، إلا أن يرسل إلى القمة العربية رئيسا يمثل ضياعه، وفشله وضعفه؟ذهب الرئيس العراقي عبداللطيف رشيد إلى القمة ليمثل بلدا تحكمه ميليشيات إيران، وتتحكم طهران بمصائره، وتهدد تركيا سيادته وتقطع عنه الماء، وتُنتهب موارده، ويعيش مواطنوه في حفرة من الفقر والبطالة ونقص الخدمات. فكان من الطبيعي أن يقدم لأقرانه من القادة العرب هزاله وهزال تمثيله وهزال البلد الذي صار رئيسا عليه، مُنتخبا من مجموعةِ عصابات، لم تقدم السنوات العشرون الماضية دليلا على شيء، سوى أنها مجموعات لصوص وأفاقين ومجرمين، من أعلى القائمة، إلى أدنى مجند فيها يرضع من ضرعٍ منهوبٍ، في بلدٍ لا سفينةَ فيه، ولا حتى من كل زوجين اثنين.
قدم الرئيس رشيد كلمة، كان يمكن لصحافي مبتدئ أن يقدم أفضل منها. إلا أن المشكلة لم تكمن في كلمة لم تقل شيئا، أو كانت مجرد اجترار لكليشيهات يمكن قولها، هي نفسها، في جميع المناسبات. المشكلة في الدور المفقود الذي انتهى إليه العراق في بيئته.هل كان يمكن لبلد لا يعرف مستقبله، ولا يملك أن يدافع عن مصالحه، وبات بلا حول ولا قوة بالمقاييس الإقليمية، إلا أن يرسل إلى القمة العربية رئيسا يمثل ضياعه، وفشله وضعفه؟ لم تكن كل الأدوار التي لعبها العراق في العقودِ السابقةِ على انكسارِه العظيم، أدوارا مريحة لبعض أطراف الأمة العربية. هذا معروف ومفهوم. وكانت له أسبابه من اختناقات الأزمات الإقليمية نفسها، إلا أن أحدا لن يستطيع نكران أن العراق كان حاضرا بقوة في كل شأن يتصل بقضايا الوحدة والتضامن التي لا خلاف عليها.
كان بلدا قادرا على أن يدافع عن نفسه وعن مصالحه، على الأقل، فأغنى أمته العربية من أن يذهب رئيسه شاكيا باكيا نقص الماء. كما كان بلدا قادرا على التصدي للتهديدات التي تمثلها دول الجوار الإقليمي، فيردعها ويحد من مخاطرها، ليس على نفسه فحسب، ولكن على محيطه الإقليمي كله أيضا.كان بلدا مستعدا لأن يرسل طائراته وصواريخه إلى مصر في خضم الحرب، وتحت لهيب نيرانها. كان بلدا قادرا على أن يرسل ألويته للدفاع عن سوريا، ولو تَبلغ باندلاع الحرب “عن طريق الإذاعات”. كان بلدا عرف كيف يُذيق إيران الخميني كأس السم. ولكنه انتهى إلى أن شرب من كأس عجزه وفشله وانحطاطه حتى الثمالة. حتى لم يعد من العجيب ألا يُصغي إلى كلمة رئيسه بعض أبزر القادة العرب، وألا ينتظروا منه ما يثير الشغف بشيء.
لا تأسف على رئيس ذهب ليمثل لا أحد. ولا على رئيس ذهب ليقدم رأيا في لا شيء، ولا على رئيس يقول ما لا يملك فيه قولا. ولكنك تأسف على بلد ضاع، وداسته الأقدام، وحولته الضباع والجرابيع إلى مرقد قمامة يزورها قادة الحرس الثوري الإيراني أكثر مما يذهبون إلى الحمام.أفلسوه مرة. وعادوا بشراهة الجوع إلى السلطة والمال، لكي يفلسوه من جديد. “عصبجية”، “كلاوجية”، و”سختجية”، يملكون الآن أن يتحكموا بمصير هذا البلد وأدواره ويصنعون مكانته في سلة المهملات العربية.
لقد قال الرئيس رشيد أمام نظرائه العرب كل ما هو رشيد من الكلام الذي لا يعني شيئا. وهم سمعوه على أساس أن الرجل لا يمثل شيئا، وأنه ظاهرة بروتوكولية أقرب إلى حادث مؤسف منه إلى رئيس يمثل بلدا كان ذا وزن، وذا نفوذ، وذا قدرة على صناعة القرار الإقليمي، أو يملك ما يضعه على الطاولة.خالي الوفاض، ذهب ذلك المسكين. وعاد خاليا. وكأنه ما جاء ولا ذهب. لأن العراق كله، بات بلا وجود. اختفى من الخارطة الإقليمية، ليتحول إلى حفرة فشل. انخسفت به الأرض، فخرجت منها العقارب والثعابين والصراصير، وتحولت إلى”ميليشيات”، فاحتفل الرئيس رشيد بأنها نجحت في مكافحة الإرهاب في “الزواغير” التي كانت موطنها هي في الأصل.
لا تعرف لماذا لا يشعر الذين لا قيمة لهم بالخجل. لا تعرف، لماذا يمثلون أدوارهم كظاهرة من ظاهرات الخداع والزيف. ثم لا تعرف، ما هي المتعة في أن يؤدوا دورا لا دور فيه. ولكنك تستطيع أن تعرف أن مغاليق الانحطاط إذا انفتحت أبوابُها، لن تسفر إلا عن كائناتٍ حتى إذا أصدرتْ صوتا، فأنت لن تسمعه. وهي الآن مَنْ يتحكم في بلد كان عزيزا ذات يوم.وهم، لفرط انشغالهم بما هو أهم، لم يعودا يلقون بالا لما يُقال عنهم، أو لما يتفشى من فضائحهم.
الرئيس رشيد قدم كلمة، كان يمكن لصحافي مبتدئ أن يقدم أفضل منها. إلا أن المشكلة لم تكمن في كلمة لم تقل شيئا.. المشكلة في الدور المفقود الذي انتهى إليه العراق في بيئته خرجتُ من العراق، أيام كانت “للحيطان آذان” تسمع النقد، تهابه، وتُعاقب عليه. الآن، سقطت الحيطان، ولكنْ انغلقت الآذان حتى ولو ضج الملايين من الناس بالاحتجاج والإدانة والنقد.
سألت أحدهم، لماذا؟ قال “لديهم ما هو أهم”. قلت: ما هو؟ قال: النهب. والقاعدة هي أن تنهب ما استطعت في أقصر مدة. وتنسحب إلى الخلف قليلا. ثم تعود بعد أن تبتعد عنك الأنظار. ثم تعود. وحيث أن الفضائح والإدانات كثيرة، فإنها لم تعد مما يُخيف أو يهم. والأهم يأتي قبل المهم، فكيف إذا لم يعد المهم مهما من الأساس.هذه هي الحفرة التي اسمها “العراق” الآن. اسم هو نفسه مجرد ظاهرة بروتوكولية لشيء أثري، لا وجود فعليا له، ولا مكانة، ولا دور.تخيّل لو أن حربا أخرى، كحرب أكتوبر 1973، اندلعت لأي سبب كان. فأين ستجد العراق؟ في الحفرة.تخيّل لو أن إيران وجهت ضربات للسعودية. فأين سيكون العراق؟ في الحفرة.
ثم تخيل لو أن ميليشيات الولي الفقيه، غزت لبنان أو اليمن، فأين سيكون العراق؟ في الحفرة.يوم كان العراق بلدا عزيزا، كانت قم ستُمحى من على وجه الأرض قبل أن تجرؤ على الرياض. وما كان لجرابيع الولي الفقيه أن يتنفسوا الهواء الطلق، لا في سوريا، ولا لبنان ولا اليمن.
ولكن العراق العزيز مات.
دخل حفرة صنعتها دبابات الغزاة. فاعتلتها العقارب والثعابين والصراصير.هذه الحفرة، أرسلت مَنْ يمثلها إلى القمة العربية، ليقول ما قال، ويعود وكأنه ما قال شيئا. ولا سمعه أحد، ولا راهن على حضوره الحضور.لا شيء مهما، على أي حال. الأهم، يظل هو الأهم، إلى أن يأتي الطوفان.