تحتاج بعض الازمات والمشكلات، حينما تصل الى نقطة اللاعودة والاستعصاء وعدم الحل، الى حدوث اجراء حاسم وجذري فيها يمكن، من خلاله وبسببه، ان تتحلحل العقد من مكانها وتتحرك مواطن الركود وتنزاح تلك الاشكالات التي كانت بمثابة العامل الرئيسي الذي أدى الى نشوء المشكلة او ابقائها بدون حل.
هذه الحقيقة العلمية او الفلسفية او النفسية ، سمّها ماشئت فلن نختلف في هذا، تنطبق على ماقام به وزير المالية العراقية السيد رافع العيساوي حينما قرر يوم الجمعة 1-3-2013الاستقالة وامام حشد كبير من المتظاهرين، أذ اعتبر العيساوي انه لاجدوى من بقاءه في منصبه، مؤكدا أن ” الحل في ساحات الاعتصام”، ومشيرا الى ان قد فعل ذلك ” التزاما بموقف أهلنا في ساحات الاعتصام”.
لست هنا في معرض الرد على تصريحات العيساوي التي جاءت مكتضة بالاسئلة وملغمة بالاستفهامات التي يمكن ان تُثار ضد استقالته وتوقيتها . فالحكومة التي وصفها بانها ” تورطت بدماء العراقيين” لم تكن متورطة من وجهة نظر العيساوي حينما لم تتعرض لحمايته وحرسه الشخصي،لكنها حينما اصدرت بحقهم اوامر القاء قبض امست متورطة بالدم العراقي ! والحكومة التي اصبحت من وجهة نظر العيساوي ” لاتمثل شعبها” لم تكن كذلك حينما كان هذا الشخص وزيرا للمالية او نائبا لرئيس الوزراء او وزير الدولة للشؤون الخارجية يتنعم بخيرات وامتيازات المناصب التي لايستحقها اغلب السياسيين والبرلمانيين في العراق.
هذه الاستقالة أعقبها اطلاق موجة من التصريحات السياسية ابتدأها مكتب رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي وبعدها جاءت التصريحات من رئيس القائمة العراقية الدكتور اياد علاوي او من بعض من اعضاء البرلمان العراقي، كجواد البزوني وحنان الفتلاوي ووحدة الجميلي وسلمان الموسوي وجمال البطيخ كرد فعل ، تحليلي، على استقالة العيساوي والتي كان في بعضها التفاتات وتفسيرات لاتخلو من الصواب خصوصا فيما يتعلق بالاخبار التي اشارت الى قرب اصدار أوامر القاء قبض بحق العيساوي لاسباب تتعلق بمخالفات قانونية ومالية.
ولذا استبق العيساوي مذكرة القاء القبض التي ستصدر بحقه باعلان الاستقالة وهو بذلك يكون يكون قد تملص منها بطريقة قانونية حينما سيعود للبرلمان كنائب يمتلك حصانة برلمانية ولو انني شخصيا استبعد ذلك، او حتى لو صدرت بحقه مذكرة القاء قبض فانه سوف يربط بين الاستقالة اذا لم يقرر العودة للبرلمان وبين هذه المذكرة بالطريقة المعروفة لكل سياسي متورط بقضايا غير قانونية !
ومع تعدد هذه التصريحات التي اطلقت لحد الان، والتي ستطلق بعد ذلك، فان هذه التصريحات والردود التي جاءت بعد استقالة العيساوي من الاطراف السياسية التي ذكرتها غفلت وتجاهلت اهم حدث يتعلق بهذا الاستقالة التي حدثت وهو النظر لهذا الفعل من حيث اتساقه مع بناء الدول الحديثة وتشكيل حكومتها وعلاقة هذا كله مع مفهوم المعارضة!، اذا مع هذه الرؤية يمكن اعتبار استقالة العيساوي خطوة صحيحة ولاتستحق الا ان ارفع القبعة لها بغض النظر عن انتماء صاحبها المذهبي والديني أو مواقفه السياسية والمتعلقات الاخرى التي ترتبط بشخصيته.
خطوة العيساوي صحيحة ومتسقة مع المنطق السياسي الذي يجد الكثير من التناقض في وقوف سياسي ينتمي لحكومة ما مع تظاهرات، طائفية بالطبع، ضد الحكومة وسياساتها، اذا لايمكن لوزير ، سواء كانت وزارته سيادية ام غير سياسية، ان يتظاهر ضد حكومة ينتمي لها ويمثلها امام ناخبيه. فهذا امر لايمكن ان يحدث ، ولو انه حدث في العراق كما وجدنا ذلك في مواقف العديد من الكتل السياسية التي تجلس تحت قبة مجلس الوزراء يوم الثلاثاء مجتمعة تحت رئاسة المالكي ثم تجدها في بقية الايام تصرح وتتخذ مواقف مناهضة لرئيس الحكومة بل للحكومة في حد ذاتها.
العيساوي لم يكتف باستقالته بل ابدى أسفه لـ”عودة وزير الكهرباء عبد الكريم عفتان إلى الوزارة” واعتبره ” قرار شخصي” لايمثل رأي القائمة العراقية، وقد تحجج السيد الوزير السابق بالتاريخ حينما دعا وزراء العراقية إلى ” عدم التورط واخذ خطوة مشابهة لخطوة وزير الكهرباء لان التاريخ لا يرحم احد”، وهو كلام صادق وحقيقي فالتاريخ لن يرحم ابد من يضع قدمه مع الحكومة وقدمه الاخرى مع من يرفعون السلاح ضد الحكومة.
بل اكثر من ذلك فالزمن، بابعاده الثلاثة التاريخ والحاضر والمستقبل، سيضع سياسيي العراق في محكمته التاريخية التي ستكون الاجيال القادمة شاهدة على سلوكياتهم وتصرفاتهم التي لم تكن ثمارها ونتائجها الا بؤسا وفقرا ومرضا كان ضحيته الاولى ووقود دماره الدامي المواطن العراقي المسكين الذي يتلاعب بحقه وحقوقه ومقدراته هؤلاء الذين يرتدون اكثر من قناع .
مهند حبيب السماوي