ابتكر ياسين النصير اسطورته من الماء، عندما منحه صورة غير مرئية غرائبية، لانه صاعد، والصعود مزدوج من الماء والنار، لان المحترق رطب، وكلما هبت النار، يصاعد الماء ولان عنونة المقال المركز جداً، ( حتى يوفر فرصة تبقيه ) هو من ماء ظل الكلمات فيه سابحة وسط محيط مائي، يتكرر، كلما وجد الاستاذ ياسين بوابة استحضاره، بواسطة الاشياء والموجودات . فالماء متعال كالسماء، وفيها وساكن في اعماقها . ومثل هذه المهارات الملتقطة لجوهر البئر الذي اتخذ دلالاته من امتداده النازل والعميق واطلق النصير علينا شرارات مقالته الواهبة لذائذها لنا . وانا اذهب الى وجود لذائذ في التلقي اذا تمكن من الفوز بفتح اسرار النص والحفر فيه . وبودي الاشارة لملاحظة بعيدة عن التأويل وهي ان المقالة القصيرة مهمة، مكتنزة بما تكتمت عليه وكما قال رولان بارت : “ لا يمكن لنص اللذة الا ان يكون نصاً قصيراً “ مثلما نقول : أهذا كل شيء ؟ هذا قصير شيئاً ما ) .
هذه المقالة المكتنزة بالمعارف والانظمة الرمزية، تجعل التلقي حاضراً وراضياً باستدراج شبكته الرمزية والخيالية . ويرتضي الامتحان الذي فيه . تصعد العلاقة مع البئر ّ. لكل منا بئره الخاص المعاش في طفولتنا القروية، في بيوتنا الفقيرة . بئر يمنحنا ما نحتاجه من ماء، وكانت والدتي تغتسل بمائه ولكل بيت بئره الخاص، وثلاجة الطعام المتبقي حتى لا يفسده حر الصيف، تحميه برودة البئر وهو يتدلى وسط زنبيل حتى اليوم الآخر .هو حاضر ومحتف، وأهم الآبار هي الراسبة، في لا وعينا والساكنة برضا في خزان الذاكرة . وعرف النصير آلية الدنو لكل كائن تعرف على بئر الآخر وتعايش وإياه .
مروياتي عن البئر وأساطيره كثيرة جداً أعظم الأساطير التي قادتني الى ملحمة جلجاميش، والبئر أحد مراكزها المعيشة والدينية وظلت وظيفته هذه متمركزة في سفر التكوين التوراتي وقصة يوسف التوراتية . كان وظل مكاناً عميقاً بتشظي معانيه ومرونته المستمرة وليونته في الاستجابة لشجاعة متلقي يطوف به وفيه . ينتج سرداً عنه ومثلما قال الأستاذ النصير، بأن البئر لا يكون مثلما هو في التصورات والتخيلات إذ نزع أساطيره . تفسد خصائصه . وأتذكر بئر أحد المعابد في مدينة البتراء، حدثني عنه المرشد السياحي وقال مؤشراً لطفلة هذه منذورة له . تقدم ما مطلوب منها لزوار المنطقة الآثارية والمزدحمة بالسواح . وتظل تعيش متجاورة مع الإله في معبده وتقص ما تتعلمه عن قداسة الإله حتى تبلغ الخامسة عشر . تنزل الى البئر، تغتسل المرة الأخيرة ويمنحها الإله المقدس بعضاً من طهارة المكان وتذهب بزفة الى بيت خطيبها، وكأن النظام الرمزي الذي كان ضمن طقوس الزواج المقدس تعطل، وستمارس النظام الواقعي للاتصال البايولوجي هذا بئر مختلف بأسطورته . ومثلما قال النصير لكل بئر مجاوراته الاسطورية ومعتقداته .
البئر خزان من العقائد والطقوس والآيات المميزة له والمقتنع بها من قبل العباد .
* * *
القبر بئر للميت واعتبر لاكان القبر أول رمز في تاريخ الحضارة الإنسانية، وتوجد آبار صارت قبوراً وأكثرها البئر التوراتي . لكن يوسف انبعث ثانية وتحول رمزاً أسطورياً، وكتب الشاعر المهم أحمد راشد آل ثاني نصاً “ لسان البئر المقطوع “ ويشف البئر في العنونة عن معان متجاورة مع الاسطورة المعنية بالخصوبة . ودلالته القريبة فالوس مقطوع وبئر ضحل الماء، وكلما ازداد الماء فيه تحول مرآة، تعكس صورة المحدق به ويذكر هذا بالإله الشاب نرسيس، وتوظيفاً لنظرية لاكان عن المرآوية بالإمكان التعامل مع البئر رمزاً مراويا يسهم بتشكل وبناء الانا في هذه المرحلة، ولعل حضور البئر عبر الميثولوجيا والانثربواوجيا جعله وحدة حاضرة في الهندسة التصميمية والانموذج على ذلك قبر نابليون الذي فاز بتصميمه احد المهندسين الاذكياء . والذي وظف عظمة نابليون بتصميم قبره محفوراً بجانب داخلي من بئر عريض يدفن فيه نابليون البطل القومي الفرنسي . اختار نابليون هذا التصميم ولذلك دلالة عميقة جعلت منه مقدساً، وزيارته تستدعي الانحناء له وتقديم نوع من الخضوع له وهو ميت .البئر نظام اسطوري بليغ وعميق، يتمتع بالتحول، لكنه لا يؤشر قطيعه مع ما كان قبلاً، بل يظل حاضراً باستمرار، يحوز طاقة وقوة فاعلة مما تراكم من معان، تضفي على التصورات والتخيلات سيرورة مستمرة .
انا استطيع القول وبثقة بأن لياسين النصير نظرية جديدة مستحدثة، استولدها من وحدة ثنائية الماضي والحاضر، ليس كتاريخ وكزمن، بل بوصفهما انظمة ثقافية ولهما تمظهر فني واسطوري . وكان قد اشار لذلك مرات عديدة واول مرة لفت انتباهي في مقالته “ الشكل البدائي للأشياء المنشورة في ثقافية الصباح يوم 6/اذار 2019//
الملاحظة الجوهرية التي كرسها المفكر ياسين النصير وهي أن الأصول صاعدة وصعودها له تمظهرات، تتبدى عليه متغيرات، اقتراناً مع الضرورات الموضوعية والملفت للمتلقي أن ياسين النصير يقرأ الماضي من خلال الحاضر الذي هو مستقبل باستمرار . ويفحص الحاضر الأشياء المألوفة، واليومية بالعودة لأسطورتها البدئية، لأن الميثولوجيا مانحة دلالة أوائل الأشياء والأشكال ذات اللحظة البدئية ( الآنية الحديثة ابنة القديمة وان تباعدت بينهما القرون . هذا يعني ثمة بناءات تبقى قاعدية وتمارس تأثيرها في كل تكوين يرتبط بتلك القاعدة حتى لو اختلفت موادها الانشائية ) وأضاف النصير لرسم حدود نظريته الثقافية الجديدة وهو معروف بالابتكارات في جمال الشعريات والوحدات البنائية للنصوص وأنا اعتقد بأن الرحم الجوهري لتحولات العقل الثقافي في جهود النصير هو المكان .سيكون هذا الموضوع مثيراً لو اتقنا الرؤيا للكيفية التي تدخل الأشياء في نصوصنا الابداعية . علينا أن نفكر أن كلمة كرسي مثلاً لا تعني مقعداً ولا مجلساً، ولا تشكيلاً ارضياً أفقياً، بل هو الكرسي الذي يقرأ أفكارنا الحياتية فيتشكل كسلطة تحدد ما يريده، معتمداً على طاقته البدائية التي يحتويها كبنية رمزية للعرش.